أيام مع أمير المحققين


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

عشنا في الأسبوع الماضي خمسة أيام في جامعتنا الفتيّة -جامعةِ القصيم- عرساً علمياً متميزاً، بقدوم المحقق الكبير، "أمير المحقّقين" ـ كما يصفه به بعض محبيه ـ أ.د.بشار عواد معروف العبيدي، صاحب التحقيقات العلمية الشهيرة الرصينة، التي ارتبطت باسمه ارتباطَ أسماءِ مؤلفيها بها، كـ"تهذيب الكمال" للمزي، و"تاريخ بغداد"، وغيرها.

قد يظنّ بعضُ القراء الكرام أن نفعَ لقاءِ هؤلاءِ الأعلامِ ـ الذين أفنوا أعمارَهم في البحث والتحقيق ـ مقتصرٌ على الفوائد العلمية فحسب! بل في لقائهم من الفوائد المتعلقة بسيرتهم البحثية، وحياتهم العلمية، والصعوبات والعقبات التي واجهتهم؛ ما لا يمكن تحصيلُه في كتابٍ معاصر، وله من الأثر المعنويِّ على نفوسِ الباحثين ما هو معلومٌ لكل مَن لقي الكبارَ في كل مجال.

ومَن الذي يُنكِرُ تأثيرَ مشاهدة القُدُوات العلمية أو العملية على الإنسان! ألسنا نجد في أنفسنا أثراً إذا لقي أحدُنا عابداً أوّاهاً، أو باذلاً خفيّاً، أو ذا خُلقٍ عظيم؟

لقد كانت لقاءات د.بشار عامرةً بالبحث والإفادة، خاصةً في مجاله الذي بزّ فيه كثيراً مِن أشياخه بَلْه أقرانه، وهو تحقيقُ كتب التراث، وضبطُ النصوص.

وقد منّ اللهُ عليّ بحضور أربعةٍ منها، لعلي أسجّل أهم المعالم التي أرى تدوينها في هذه العجالة، مما يفيد عمومَ القرّاء، دون الدخول في تفاصيل الفوائد، التي قد تُهم المختصين أكثر من غيرهم.

 

أولاً: تراءت لي هذه الجملة المشهورة: "من لا تكون له بداية محرقة لا تكون له نهاية مشرقة"، وأنا أسمع حديثَه عن بدايات طلبه للعلم، وما واجه من مشاق، بل ومِن تعرّضه لمحاولة الاغتيال عدة مرات! لكنه تجاوز ذلك كلَّه بفضل الله ثم بعزيمة الرجال.

 

ثانيا: ثمة شيءٌ لا تُخطئه أُذُنُ المستمع لأحاديث الدكتور بشار، وهو حبّه للعلم حبّا بلغ مرحلةَ العشق والهيام، وهذا ـ بعد توفيق الله ـ أحدُ أهم أسباب ما بلغه من الإنتاج الغزير، ودقّته أيضًا.

سمعته يقول ـ بعد أن استُكْثر عليه كل هذا الإنتاج وحده ـ: كتبتُ بأصبعي هذه مائة وخمسين ألف ـ 150,000ـ صفحة!

وسمعته يقول: إن تسعين بالمئة (90%) من أعمالي العلمية كان بعد نيلي لدرجة الأستاذية (بروفسور)!

تأمّل هذه أخي القارئ الكريم! واعرِض هذه الكلمة على واقع أكثر الذين ينالون هذه الدرجة، الذين يتوقف إنتاجُهم أو يَضعف بعد نيلها! ووالله لكأنما أرسلَ هذه الرسالة لنفسي المقصّرة، أسأل الله أن يعيني ويوفقني لاغتنام ما بقي من عمري.

لقد مرّت العراقُ ـ بلد د.بشار ـ بأحوالٍ وأهوالٍ تشيب لها مفارقُ الولدان، واضطرته الأحوالُ إلى أن يفارق بلدَه لا عن اختيار ـ وما أصعب هذا على النفوس! ـ  وأن يترك كثيراً من أمواله وأمتعته التي اجتمعتْ له في عشراتِ السنين؛ لينجو بدينه وبنفسه، واستقرت به عصا الترحال في المملكة الأردنية الهاشمية، التي أكرمته بما يليق به وبعلمه، وبما يليق بأخلاق سلالة البيت النبوي الشريف، وهو في كل ذلك لا يترك التحقيق، ولا البحث، بل أخرج بعد أن جاوز الستين عشراتِ المجلدات المحقَّقة تحقيقًا علميًا قويًا، وعلى رأس تلك الكتب: تحقيقه لتاريخ بغداد.

وهو الآن ـ وقد قارب الثمانين ـ يعمل على تحقيق كتابين من الموسوعات التي تَنوء بها مجامع علمية: "التمهيد" لابن عبدالبر، و"المحلّى" لابن حزم، بارك الله فيه وأعانه على إكمال هذين العملين المُهمّين.

 

ثالثًا: حرصه على وقته، بل وبذله الأوقات الطويلة في العلم والتحقيق.

لقد كان د.بشار أيامَ شبابه وقبل أن يتقدم به السنّ يُمضي قرابةَ ست عشرة ساعة في القراءة والتحقيق، وتصحيح الكتب والملازم، ومع تقدّم السنّ نقصتْ حتى بلغت تسع ساعات! وهذا شيء نادرٌ في الباحثين الشباب؛ فكيف بمن هو في عشر الثمانين! ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

وهذا الحرصُ الشديدُ على الوقت هو ـ بفضل الله ـ أحد أسباب هذا الإنتاج الغزير.

 

رابعًا: سُوق التحقيق كغيرها من الأسواق، فيها يتنافس المتنافسون، ومع طول باع هذا الرجل، وكثرةِ مَن يبيع ويشتري في هذا السوق، إلا أنه عفَّ اللسان، لم أقف له على سبٍّ ولا شتم، وهو إن قسى فإنما يقسو على ذات العمل، مع البُعد عن تجريح الذوات.

بل سمعتُه عدة مرات ـ وهو يتحدث عن عمله في "المحلى"، و"جامع الترمذي" ـ يثني كثيراً على الشيخ المحقق أحمد شاكر، ويعتذر له عن بعض ما وقع له من ملاحظات، مع انتقادِه له في منهجه في التحقيق.

وسبحان الله! كم بين هذا المنهج وبين منهج بعضِ المحققين الذين يرون أنه لا يمكن أن يُثبت قوةَ تحقيقه إلا بنسف جهود مَن سبقه، والحطّ عليهم!

هذه بعضُ المعالم التي أراها جديرةً بلفت النظرِ في سيرة هذا العلَم الكبير، الذي أسأل الله تعالى أن يبارك في عمره، ويَنسأ في أَثَره، وأن يختم لنا وله بخير.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply