الذكاء لا يصنع عالماً


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

قد ترى الرجل جيد الملكة، متوقد الذهن، سريع الإدراك قد انقطع لطلب العلم الشرعي، ووقف عليه جهده، ثم ترى أنه لم يأخذ منه حظاً، ولم يترك عليه أثراً، بل ربما شطح فيه شطحات، فلعلك تذكر كلمة ابن تيمية ـ مجموع الفتاوى5/119 ـ عن أهل الكلام: (أوتوا ذكاء، وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوماً، وما أعطوا علوماً).

ثم ترى الرجل دون الأول في الإدراك والحفظ والألمعية، وقد منَّ الله عليه ببركة علمه، وعموم نفعه، ووفرة حظه فيه!

وترى الطالبَين يحضران نفس الدروس، ويحفظان نفس المتون، وتجد عند أحدهما من بركة العلم ما ليس عند الآخر!

فما سر ذلك ياترى؟

أليس الذكاء، والفطنة، والألمعية، وقوة الحافظة من أسباب النبوغ في العلم؟!

أليس الحرص في طلب العلم، ومثافنة الأشياخ من أجله من أسباب تحصيل العلم، وإدراك مراميه؟!

لقد تتابع أهل العلم في ذكر سر هذه الأمر، وأن الأسباب المحسوسة وحدها لا تكفي في نيل العلم الشرعي، ومن مأثور كلامهم في ذلك:

 قال الإمام مالك ـ كما في الإلماع ص217ـ: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في القلوب)، وقال مرة ـ كما في ترتيب المدارك ص57 ـ: (العلم قَسْمٌ من الله).

وقال الإمام أحمد ـ كما في الآداب الشرعية 2/59 ـ: (إنما العلم مواهب؛ يؤتيه الله من أحب من خلقه).

وزاد هذا الأمر توضيحاً ابن حزم، فقال في كتابه مداوة النفوس1/388: (اعلم أنَّ كثيرا من أهل الحرص على العلم يجدِّون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب، ثم لا يرزقون منه حظا، فليعلم ذو العلم أنَّه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح أنَّه موهبة من الله تعالى).

ونظم هذا المعنى العلامة ابن القيم في نونيته، فقال :

والعلم يدخل قلب كل موفـق                          من غير بواب ولا استئذان

ويرده المحروم من خذلانـــــه                           لا تشقنا اللهم بالحرمـــان

وأكد هذا المعنى ابن رجب فقال في فضل علم السلف ص65: (ليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب؛ يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل).

ولما ترجم الذهبي لأبي سعد السمان في كتابه السير18/53 ـ58 نقل عن الحافظ عبدالعزيز الكتاني قوله: (كان أبو سعد من الحفاظ الكبار، زاهداً ورعاً، وكان يذهب إلى الاعتزال).

ونقل في ترجمته عن بعضهم: (أنه كان إماما بلا مدافعة في القراءات، والحديث والرجال، والفرائض والشروط، عالما بفقه أبي حنيفة، وبالخلاف بين أبي حنيفة والشافعي وفقه الزيدية، وكان يذهب مذهب أبي هاشم الجبائي، ودخل الشام والحجاز والمغرب، وقرأ على ثلاثة آلاف شيخ، وقصد أصبهان في آخر عمره لطلب الحديث، وكان يقال في مدحه: إنه ما شاهد مثل نفسه، كان تاريخ الزمان، وشيخ الاسلام).

ثم علق الذهبي على ذلك قائلاً: (أنى يوصف من قد اعتزل وابتدع، وبالكتاب والسنة فقلَّ ما انتفع؟ فهذا عبرة، والتوفيق فمن الله وحده) ثم أنشد الذهبي:

هتف الذكاء وقال لست بنافع * إلا بتوفيق من الوهاب

 

لقد اتفقت كلمة هؤلاء الأئمة أن العلم إنما هو محض توفيق من الله، يصطفي به من شاء من عباده، فهل يعني هذا أن يترك المرء فعل الأسباب، لأن العلم إنما هو موهبة من الله!

لا، بل يتحتم عليه الطرقُ للباب، والأخذُ بالأسباب؛ فإن الله ـ سبحانه ـ قال: […وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ..]الآية.{النور:21}، وقال: [..وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ..]الآية. {فاطر:18}، وقال تعالى: [ويهدي إليه من ينيب]، قال العلامة السعدي عند هذه الآية: (حسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها).

وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ]{الأنفال:29}.

 قال السعدي: (أي: علما تفرقون به بين الحقائق، والحق والباطل)، فتقوى ما جاورت قلب امرئ إلا وصل.

وقد نقل أبو بكر المرُُّوْذي في كتاب الورع ص7 عن الإمام أحمد إشارة نفيسة في ذلك، فقال: سمعت فتح بن أبي الفتح يقول لأبي عبدالله ـ يعني الإمام أحمد ـ في مرضه الذي مات فيه: ادع الله أن يحسن الخلافة علينا بعدك؟ وقال له: من نسأل بعدك؟ فقال: سل عبدالوهاب بن عبد الحكم، وأخبرني من كان حاضراً، أنه قال له: إنه ليس له اتساع في العلم؟! فقال أبو عبدالله : (إنه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق).

فهذه كلمة عظيمة خرجت من رجل استبطن دخائل العلم، واستجلى غوامضه، في آخر لحظات حياته؛ فهي عصارة رأي إمام عاش عمره في بؤبؤ العلم؛ وغذي بلبانه، ودرج من مهده؛ لتُبِيْن بجلاء أن الصلاح  سبيلٌ للتوفيق في العلم، وإصابة الحق فيه، وأن واسع العلم قد يخذل فيه؛ إذا لم تسعفه التقوى.

فمن أراد العلم فليقرن به التقوى، وليكونا  كما قال أبو تمام:

شريكا عَنان رضيعا لِبان … عتيقا رِهان حليفا صَفاء

فمن فعل ذلك فثّمَّ العلم، فاللهم أعطنا ولا تشقنا بالحرمان، وعافنا واعف عنا يارحمن.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply