التواضع زينة الأخلاق


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

 عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما من آدمي إلا في رأسه حَكَمَة بيد مَلَك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: دع حكمته)(1) ‌

من أعظم النعم التي ينعم الله بها على عبده «نعمة التواضع».. أن يألف ويؤلف.. أن يكون هينا لينا قريبا سهلا.. سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى. وللتواضع تأثير عجيب في تماسك المجتمع، فلا يدعه حتى يصير كل أفراده على قلب رجل واحد، لا يشقى بينهم يتيم، ولا يضيع وسطهم محروم، ولا يظلم في جوارهم ضعيف.

قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}[الفرقان:63]..

أي يمشون بسكينة ووقار، متواضعين غير أشرين، ولا مرحين ولا متكبرين.

قال سيد قطب -رحمة الله-: ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن، أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة ليس فيها تكلف ولا تصنع وليس فيها خيلاء ولا تنفج ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل، فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية وعما يستكن فيها من مشاعر، والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة، فيها وقار وسكينة وفيها جد وقوة(2).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغ أحد على أحد)(3)

وقال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)(4)

ويعلق المناوي على حديثنا هذا بقوله: (ما من آدمي) من زائدة وهي هنا تفيد عموم النفي، وتحسين دخول ما على النكرة (إلا في رأسه حكمة) وهي بالتحريك: ما يجعل تحت حنك الدابة يمنعها المخالفة كاللجام، والحنك متصل بالرأس (بيد ملك) موكل به (فإذا تواضع) للحق والخلق (قيل للملك) من قبل اللّه تعالى (ارفع حكمته) أي قدره ومنزلته، يقال: فلان عالي الحكمة، فرفعها كناية عن الإعزاز (فإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته) كناية عن إذلاله، فإن من صفة الذليل تنكيس رأسه، فثمرة التكبر في الدنيا الذلة بين عباد اللّه، وفي الآخرة نار الإيثار، وهي عصارة أهل النار كما جاء في بعض الأخبار(5)

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إن الرجل إذا تواضع لله رفع الله حكمته. وقال: انتعش نعشك الله، فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس كبير، وإذا تكبر العبد وعدا طوره، وهصه الله إلى الأرض، وقال أخسأك الله، فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس صغير(6)

يقول ابن حبان: الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر، ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره، والتواضع نوعان: التواضع المحمود ويكون بترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم، والتواضع المذموم وهو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه(7).

قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع(8).

وقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: إنكم لتغفلون أفضل العبادة: التواضع(9).

وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: لن يبلغ العبد ذرى الإيمان حتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف(10).

وقال عروة بن الورد: التواضع أحد مصائد الشرف، وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع (11).

وقال أبو حاتم: التواضع يرفع المرء قدرا، ويعظم له خطرا، ويزيده نبلا (12).

وعبارات السلف الصالح في تعريف التواضع أشبه بصندوق الدرر التي تبهر العين وتمسك بتلابيب الفؤاد، فسئل الفضيل بن عياض يوما عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله.

وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح ولين الجانب.

وقال أبو يزيد البسطامي: هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا، ولا يرى في الخلق شرا منه.

وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان، والعز في التواضع، فمن طلبه في الكبر فهو كطلب الماء من النار.

وقال حمدون القصار: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا.

وقال صاحب ( المنازل) شيخ الإسلام الهروي: التواضع أن يتواضع العبد لصولة الحق .. قال ابن القيم معلقا: يعني أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد، والدخول تحت رقه، بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع، ولهذا فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الكبر بضده، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس)(13) فبطر الحق: رده وجحده والدفع في صدره كدفع الصائل، وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها (14).

 

ومن مظاهر التواضع وصفات المتواضعين (15):

-       كراهيتهم مشي الناس خلفهم: فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: "ما رئي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأكل متكئا ولا يطأ عقبه رجلان" (16)، وسار قوم خلف عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فنظر إليهم غاضبا، وقال لهم: ارجعوا، فإنها فتنة للمتبوع، وذلة للتابع.

-       زيارتهم لغيرهم: قدم سفيان الثوري «الرملة» فبعث إليه إبراهيم ابن أدهم أن تعال فحدثنا، فجاء سفيان فقيل: له يا أبا إسحق تبعث إليه بمثل هذا؟‍ فقال: أردت أن أنظر كيف تواضعه. 

-       لا يستنكفون من جلوس غيرهم إلى جوارهم: قال ابن وهب، جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد، فمس فخذي فخذه، فنحيت نفسي عنه، فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه، وقال لي: لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة، وإني لا أعرف رجلا منكم شرا مني.

-       عدم أنفتهم من حمل أمتعتهم الخاصة: قال علي -رضي الله عنه- لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله. وعن الأصبغ بن نباته قال: كأني أنظر إلى عمر -رضي الله عنه- معلقا لحما في يده اليسرى، وفي يده اليمنى الدرة، يدور في الأسواق حتى دخل رحله.

-       جلوسهم إلى المساكين: عن مسعر قال: مر الحسين بن علي -رضي الله عنه- على مساكين وقد بسطوا كساء وبين أيديهم كسر فقالوا: هلم يا أبا عبد الله، فحول وركه وقرأ: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النحل:23] فأكل معهم ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني، فقال للرباب ـ يعني امرأته ـ أخرجي ما كنت تدخرين. (17)

 

اخفض جناحك:

قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215]

قال القرطبي: أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم (18)

ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- سيد المتواضعين، وكان يقول: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين)(19)

أراد به استكانة القلب والتواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين.. قال ابن تيمية: فالمسكين المحمود هو المتواضع الخاشع لله، ليس المراد بالمسكنة عدم المال بل قد يكون الرجل فقيرا من المال وهو جبار، فالمسكنة خلق في النفس وهو التواضع والخشوع واللين ضد الكبر، كما قال عيس عليه السلام: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}[مريم:32](20)

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة، لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت نبيا عبدا وإن شئت نبيا ملكا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام، فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا)

قالت: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك لا يأكل متكئا: يقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)(21)

وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يمر على الصبيان فيسلم عليهم (22)

وعنه أيضا قال: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت (23)

وعن سهل بن حنيف قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم (24)

وعن الحسن البصري أنه ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لا والله ما كانت تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزا من أراد أن يلقى نبي الله لقيه، وكان يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، يلبس الغليظ، ويركب الحمار ويردف عبده ويعلف دابته بيده صلى الله عليه وسلم- (25)

 

على الدرب:

قسم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بين الصحابة -رضي الله عنهم- حللا، فبعث إلى معاذ حلة ثمينة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم، فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها، فعاتبه معاذ. فقال عمر: لأنك بعت الأولى. فقال معاذ: وما عليك؟! ادفع لي نصيبي، وقد حلفت لأضربن بها رأسك، فقال عمر: رأسي بين يديك، وقد يرفق الشاب بالشيخ (26)

وعن عمرو بن قيس أن عليا -رضي الله عنه- رئي عليه إزار مرقوع فعوتب في لبسه، فقال يقتدي بي المؤمن ويخشع له القلب (27)

وعن فضيل بن عياض قال: رئي على سلمان جبة من صوف، فقيل له لو لبست ألين من هذا؟ فقال: إنما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد، فإذا عتقت لبست ثيابا لا تبلى حواشيها (28)

وعن الإمام أحمد يقول المروزي: لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلا إليهم مقصرا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يًسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر يقعد حيث انتهى به المجلس (29).

 

همسة في أذن كل متكبر:

إذا كانت الهداية إلى الله تعالى مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة، والعاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة، فلا تعجب بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك، فإن ذلك وإن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله الدار عليك وخيره، فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخر بمتاع غيره، وربما سلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم فأصبحت وزهرها يابس هشيم، إذ هبت عليها الريح العقيم، كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم، فيصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم، ذلك من فعل العزيز الحليم الخلاق العليم (30).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

المصادر والهوامش:

(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير 12/281 برقم 143532 عن ابن عباس -رضي الله عنه-، والبزار عن أبي هريرة، وقال المنذري في الترغيب 4/16 والهيثمي في مجمع الزوائد 8/82: إسنادهما حسن،ورواه البيهقي في شعب الإيمان 6/277 برقم 8143 ورواه أيضا السيوطي في الجامع الصغير (حسن) انظر حديث رقم: 5675 في صحيح الجامع للسيوطي / الألباني .‌وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 535 

(2) الظلال ص 2577

(3) رواه مسلم عن عياض بن حمار / كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم 5109 4689

(4) رواه مسلم عن أبي هريرة / كتاب البر والصلة والآداب برقم 4665  

(5) فيض القدير / المناوي (2/548)

(6) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ــ ابن حبان ص 60

(7) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ــ ابن حبان ــ مكتبة السنة المحمدية ــ القاهرة ص 56

(8) موسوعة صلاح الأمة في علو الهمة / العفاني ج5 ص 420

(9) حلية الأولياء ــ أبو نعيم الأصبهاني ج7 ص240

(10) الزهد ــ ابن المبارك ج1 ص52

(11) تنبيه الغافلين / السمرقندي ص139

(12) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ــ ابن حبان ص 60

(13) تخريج السيوطي رواه مسلم  عن ابن مسعود ــ كتاب الإيمان برقم 131 (صحيح) انظر حديث رقم: 7674 في صحيح الجامع.‌السيوطي / الألباني

(14) انظر هذه التعريفات في مدارج السالكين ــ ابن القيم ط دار الحديث القاهرة ج 2 ص 346

(15) انظر موسوعة صلاح الأمة في علو الهمة / د. سيد العفاني ط دار الرسالة ج5 ص 445 وما بعدها (16) إسناده حسن أخرجه ابن أبي الدنيا في (التواضع والخمول) وأبو الشيخ في (أخلاق النبي) والبيهقي في (الزهد) 2/585

(17) أنظر التواضع والخمول لابن أبي الدنيا ص151

(18) تفسير القرطبي ص 3673 ط دار الشعب

(19) رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري ــ كتاب الزهد برقم 4116 والترمذي بنحوه عن أنس ــ كتاب الزهد برقم 2275 وحسنه الألباني في إرواء الغليل 3/363 

(20) مجموع الفتاوى 18/382

(21) صحيح لغيره: رواه البغوي في شرح السنة وروى نحوه الهيثمي في المجمع 9/19 عن أبي هريره وقال (رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال الأولين رجال الصحيح ورواه أبو يعلى بإسناد حسن)

(22) رواه البخاري ــ كتاب الاستئذان ــ باب التسليم على الصبيان

(23) البخاري ــ كتاب الآداب برقم 5610

(24) صحيح: رواه أبو يعلى والطبراني والحاكم 2/466 وصححه الألباني في الصحيحة برقم 2112

(25) صفوة الصفوة ج: 1 ص: 168

(26) مدارج السالكين 2/230

(27) إسناده صحيح أخرجه أحمد في فضائل الصحابة وهناد في الزهد 2/565 وابن سعد في الطبقات 6/  583 وابن أبي الدنيا في التواضع والخمول

(28) ابن أبي الدنيا في التواضع والخمول 1/548

(29) تاريخ الإسلام ــ الذهبي 4/588 

(30) التذكرة في أحوال الموت وأمور الآخرة ــ القرطبي بتحقيق مجدي فتحي السيد (1/109) دار الصحابة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply