المحيط الذي تصنعه لأولادك هو الذي سيصنع لك أخلاق أولادك


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

حول موضوع: (المحيط الذي تصنعه لأولادك هو -بعد توفيق الله- الذي سيصنع لك أخلاق أولادك):

‏بعض الآباء والأمهات يشتكون من سوء أخلاق وألفاظ وتعامل أبنائهم معهم أو مع بعضهم البعض، لكنهم في المقابل لم يسألوا أنفسهم عن البيئة التي وفروها لأبنائهم وعن المحيط المناسب الذي أحاطوا فيه أولادهم. فقوانين السببية في الحياة الأسرية تسري وتؤثر في أغلب الأحيان في تربية الأبناء.

‏حينما يتم إهمال الأبناء في وسط سيء، وحينما يُحاطون بمحيط يسمعون فيه الألفاظ البذيئة، ويرون التعامل القاسي والعنيف من قدواتهم، فمن الطبيعي غالبًا أن ينتج ذلك الوسط ما هو من جنسه، وكما قيل:

‏أما تدري أبانا كل فرع

‏يجاري بالخطى من أدبوه

‏وينشأ ناشئ الفتيان منا

‏على ما كان عوده أبوه

‏يشتكي بعض الآباء والأمهات سوء أخلاقيات أولادهم، وهم في الحقيقة نتاج تربيتهم ومحيطهم ووسطهم الأسري، وكما قال أحدهم: "هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد". الأطفال بذور -بعد هداية الله وتوفيقه- أنت تزرعها في أرض طيبة أو أرض ملحة كالحة، يترعرعون ولديهم القابلية للخير والشر.

الأب والأم -بعد الله تعالى- هم من يوجهون وينمون خيارات الخير والفضيلة وحسن الأخلاق في ذريتهم، وهم أيضًا من ينمون خيارات الشر والرذيلة وسوء الأخلاق فيهم. الأطفال يولدون بالفطرة، فالآباء والأمهات إما أن يميلوا بهم للخيرات والهدايات والنور، أو يحرفوهم إلى الشرور والضلال والظلمات.

‏خذها قاعدة -واللَّه خَيْرٌ حَافِظًا وهو أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ- ما تقدمه لأولادك في طفولتهم ومراهقتهم سيعود إليك بنفس الطريقة والنوعية. لا تتوقع أن تزرع الإهمال والقسوة وسوء الأخلاق والبذاءة ثم تحصد الاهتمام والرحمة وحسن الأخلاق وطيب اللسان. التربية دين سيعود يطالبك يومًا ما!

‏وكما قيل قديمًا "من ثمارهم تعرفهم، هل تجني من الشوك عنباً، أم من العوسج تيناً!"، إنَّ الشجرة الطيبة تطرح ثماراً طيبة، والشجرة الخبيثة تطرح ثماراً خبيثة، فأنتبه أنتَ أيها الأب وأنتِ أيتها الأم، ويجب أن تتفطنا لأشجاركم، فتحتها سوف تستظلون، ومن ثمارها سوف تأكلون!

‏بعض الآباء والأمهات يصابون بحسرة ويعتصرهم الألم، حينما يرون أبناء غيرهم يتحدثون "بذرابة"، وأدب ولباقة، وألفاظ مدنية مهذبة راقية، مع نورٍ في قسمات الوجه وإشارقته، لم تعكرها الانحرافات الأخلاقية أو النفسية، فيتنهد قائلاً: أين هذا الولد الفالح أو البنت النبيلة من ابني أو بنتي؟!

‏والحقيقة أن هذا النتاج أو الخبز هو خبزكما وحان دوركما لتأكلا مما خبزته أيديكما، فغالبًا لا يقع اللوم على الخبز بل على الخبَّاز الذي عجن وخبز، فإذا خرج النتاج مخترقًا أو نيًا فالذنب كل الذنب على الخباز الذي لم يقم بعمله كما ينبغي.

صدقوني، غالبًا ما يكون الولد الطيب والبنت الطيبة نتاج التربية الطيبة، وغالبًا الولد السيئ والبنت السيئة نتاج التربية السيئة، كل هؤلاء غالبًا هم من ثمار المحيط والوسط الذي تهم تهيئته لهم منذ ما قبل ولادتهم وأثناء ذلك وبعد ذلك، هم في الحقيقة مرآة صادقة لتربية الآباء والأمهات.

‏كل إنسان مهما كان سنه عنده قابلية لأن يتشكل ويتغير حسب المحيط والوسط الذي يكون فيه، وخصوصًا الأطفال الذين تكون قابلتهم لذلك أكبر استعدادًا من غيرهم، فهو كائنات التقاطية عالية الرقابة لما يدور حولها، فتلتقطه وتتمثله وتتقمصه ثم تكون هي هو.

‏فالمربي المتشدد والقاسي والمؤلم وإن كان بلباس التدين، والمربي المتسيب المهمل غير المبالي أخلاقيًا، هؤلاء في الغالب نتاجهم واحد، وهو ضياع أو انحراف أو تأثر أولادهم بشكل سلبي، زاد أو قلَّ ذلك التأثر، ولا بد أن يتركوا آثارًا سلبية في أبنائهم، وسيكابدون وهم يحملون هم تلك الذكريات!

‏كل إنسان قابل للتغير للأحسن والأفضل، القاسي يُمكن أن يتحول لرحيم، والبذيء يمكن أن يتحول لمهذب، والمهمل يُمكن أن يتحول لإنسان يمنح الاهتمام من حوله، وسيء الخلق يُمكن أن يصير إلى أحسن الناس أخلاقًا، كل ذلك يُمكن إذا توفرت، بعد توفيق الله: الوسط الطيب، الرغبة والعزيمة، والقدوة.

‏يُقال أنَّ شاعرًا اسمه علي بن الجهم، عاش في بيئة قاسية صحراوية، وتربى في وسط ضيقٍ ومحيط جافٍ، كل ذلك أثر في بنيته اللفظية والفكرية، فنحن نتاج وسطنا ومحيطنا، منه نغترف وفيه نبحر. أصابت هذا الشاب فاقة وفقر، فاحتاج إلى المال، ولأنه شاعر قصد أحد الخلفاء ليمدحه لعله ينال مكرمة.

‏دخل هذا الشاب على مجلس الخليفة لينشده من شعره، ومما قاله للخليفة يمدحه:

‏أنت كالكلب في حِفاظِكَ للود

‏وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ

‏أنت كالدلو لا عدمناك دولاً

‏من كبار الدلا كثير الذنوبِ

‏وعندما سمعت حاشية الخليفة بهذه الأبيات في حق خليفتهم صعقوا وثبوا عليه لكي يوسعوه ضربًا وإهانته.

‏لكن الخليفة كان عاقلاً ومدركًا وبعيد النظر، فقال لحاشيته: أتركوه. ولقد علم الخليفة أن هذا الشاعر الشاب إنما ضمر إبداعه وضعف تشبيه بسبب محيطه الذي عاش فيه، ولم يكن الضعف بسببه، فلم يكن ضموره ذاتيًا بل عرضيًا نشأ من البيئة والوسط والمحيط الذي ترعرع فيه، فمحدوديته من محدوديتها.

‏أمر الخليفة بأن تجعل للشاب إقامة خاصة (=المحيط البديل والوسط الجديد) في بستان مُزهرٍ بالقرب من مدينة الرصافة عند جسر بغداد، ليطل هذا الشاب القادم من الرمال على الجنات الخضراء والماء الرقراق والحُسن، ليخلق له بيئة ووسطًا ومحيطًا جديدًا، ليُرى هل سيتغير لفظه وسلوكه وتهذيبه؟

‏وبعد مدة من الزمان، وقد بدأ المحيط يعمل في داخله بعد أن بهره ظاهر الوسط الجديد الذي عاش فيه، وهكذا بدأ يظهر في داخله، بسبب محيطه الجديد وبيئته البديلة، ذلك الإنسان الجديد، إنسان المدينة بسلوكه وألفاظه ولباقته ومصطلحاته. لقد استطاع المحيط والوسط أن ينتج شخصًا آخر!

‏بعدما تأكد الخليفة من أن الزمن الذي يتطلبه التغير داخل المحيط الجديد أصبح كافيا، طلب الشاعر الشاب، صاحب الكلب والتيس سابقا، ليمثل أمامه ويتحفه بقصيدته الجديدة التي تكونت وولدت في هذا المحيط المدني الراقي الجديد. فقال علي بن الجهم قصيدة المشهورة التي تعتبر من عيون الشعر العربي.

قال علي بن الجهم في قصيدته:

‏عيون المها بين الرصافة والجسرِ

‏جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

‏أعدن لي الشوق القديم ولم أكن

‏سلوت ولكن زدن جمرًا على جمرِ

‏سلمن وأسلمن القلوب كأنما

‏تشك بأطراف المثقفة السمرِ

‏وقلن لنا نحن الأهلة إنما

‏تضيء لمن يسري بليل ولا تقري

‏إلى آخر القصيدة البديعة الرائقة. فلما انتهى منها أصاب الذهول كل الحضور، ونظروا إلى الخليفة وعيونهم تتساءل: أهذا هو صاحبنا صاحب الكلب والتيس؟! فسكت الخليفة، وكأنه خاف على علي بن الجهم. فقالت له حاشيته: ما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخشى على علي بن الجهم أن يذوب رقة!

‏فانظر كيف تحول الشاب من جاف وغليظ إلى شاب يُخاف أن يذوب رقبة! وهذا كله بسبب محيطه الذي تغير! مع العلم أن هذا الشاب تغير على كِبَر. ومن هنا نعلم لماذا أُمر قاتل المئة نفس التائب أن يهجر محيطه ووسطه السابق ويرحل لوسط ومحيط جديد. إن محيط ووسطك هو أنت!

ومع هذا فلكل قاعدة شواذ، فقد يُبتلى الصالحون الأخيار من الآباء والأمهات، الذين بذلوا الأسباب، بفساد بعض أبنائهم وبناتهم، لأسباب خارج بيتهم الصغيرة وداخلة في البيئة الأكبر: الشارع، المدرسة، الجامعة، القرابات والصداقات... إلخ، وتلك والله مصيبة عظيمة!

‏لكن هذا لا يخرم القاعدة، فالله جعل لكل شيء أسبابه، ومن أسباب الصلاح والهداية المحيط الهادي والوسط الصالح، ووجود عينات انخرم فيها ذلك لا يطعن في الأصل، فالأصل باقٍ، وانخرام صلاح الأبناء يعود لأسباب مضادة، والله سبحانه يتولى الصالحين وذريتهم ويحفظهم ويرعاهم بتربيتهم ودعائهم.

‏وفي الوقت نفسه، من لم يُوفق إلى محيط صالح ووسط خيِّرِ ليس لهم العذر أن يفسد وينحرف، والله سبحانه سيحاسبه على ما فعله إذا كان عاقلاً بالغًا مكلفًا حرًا، فكل نفس بما كسبت رهينة، وأنت مسئول عن ما تفعله من الخير والسر، والحسن والقبيح.

‏وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ وَالِداً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ". أسأل الله أن يرزقنا وإياكم صلاح الأولاد والبنات وجميع الذرية، وأن يعيننا على طاعته ببرهم، وأن يعينهم على طاعته ببرنا، وأن يحسن لنا ولهم العاقبة في الأمر كله، ويقينا شر كل شر.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply