حياةٌ مع اللحظات الأخيرة التي عاشها ابن تيمية رحمه الله


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

‏وُضع ابن تيمية في السجن بعد أن ضاقت به نفوس خصومه الذين عجزوا عن مجاراته في الحجة والبرهان، فسعت فيه طوائف وشرذمة إلى السلاطين، بالكذب والتلبيس، وكتابة التقارير الكيديَّة، التي تنم بعضها عن رداءة في النفوس، تهافتٍ في الأخلاق، وسوء معدن!

‏لقد كان مفتاح شخصية شيخ الإسلام -رحمه الله- هو ما قاله العالم الجليل ابن فضل الله العمري عن ابن تيمية: "وكان ابن تيمية لا تأخذه في الحق لومة لائم، وليس عنده مداهنة، وكان مادحه وذامه في الحق عنده سواء".

‏قلتُ: وإن الجملة الأخيرة صعبة جدًا أن تجدها إلا عند القلة الخلص من الأولياء!

‏كان لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يأخذ بالتقيَّة خيفة من الناس على  مصالحه ومدخراته الشخصية، وكان يقول بالحق الذي آمنه به، لا يتزعزع ولا يداهن أحداً، ولو أجتمع الناس كلهم لحربه، ولو سلطوا السلاطين عليه، وكتبوا في ذمه التقارير الكيدية، ومكروا به، فإنه ثابت الجنان، ناطق بالحق.

‏لقد بيَّن ابن تيمية الداء الذي أصاب طائفة كبيرة من الخواص، حيث قال: "ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه".

‏ومما زاد غيض خصومه عليه، ما كانوا يقترفونه من كتم الحق، ومجاملتهم على حساب دينهم، يحقرون عامة الناس ترفعًا وكبرًا، وفي المقابل كان ابن تيمية صادحاً بالحق، ناطقاً بالصدق، ساعيًا في حقوق فقراء الخلق، مساعدًا لهم في أرزاقهم، مفتشاً عن الفقير المحتاج، باذلاً لقمته إلى فم المساكين!

‏قال الحافظ البزار: "ابن تيمية ما زاحم في طلب الرئاسات، ولا رئي ساعياً في تحصيل المباحات، مع أن الملوك والأمراء والتجار والكبراء كانوا طوع أمره، خاضعين لقوله وفعله، وادّين أن يتقربوا إلى قلبه مهما أمكنهم، مظهرين لإجلاله، أو أن يؤهل كلا منهم في بذل ماله".

‏ويقال الحافظ البزار عن حال مبغضيه: "سبب عداوتهم له أن مقصودهم الأكبر طلبُ الجاهِ والرئاسة، وإقبال الخلق، ورأوه قد رقاه الله إلى ذروة السنام، من ذلك ما أوقع له في قلوب الخاصة والعامة من المواهب التي منحه بها، وهم عنها بمعزل، فنصبوا عداوته، وامتلأت قلوبهم بمحاسدته".

‏ولأنهم يعلمون أن العامة والخاصة تحبه، لذا عمدوا إلى الكذب عليه واختلاق الباطل على لسانه ولبس الحق بالباطل، واستعداء أهل الخرافات عليه، ومن ناصرهم، مع أنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه عالم مجتهد، آخذٌ بالدليل العقلي والشرعي، لا يقول بهوى، و لا ينطلق من تشهي، ولا يكتم حقاً اعتقده.

‏ولم يكن ابن تيمية -رحمه الله- مزدوج الشخصية، ولا صاحب منهجين ولا وجهين، ولم يكن ممن يستغفل الجمهور هنا وهناك، ولم يكن يقول شيئاً للخاصة مختلفاً عما يقوله للعامة، بل كان القول عنده واحداً.

‏قال ابن تيمية: "وما كتبت شيئاً من هذا ليكتم عن أحد ولو كان مبغضا ً".

‏وما كان يفتي ليرى مكانه، أو ليجمع جمهوره، أو ليحصد رضا الخلق، بل كان يقف عند الحق. قال ابن تيمية رحمه الله: "إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تشكل عليَّ، فأستغفر الله تعالى ألف مرة، أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل".

‏ومع كل ذلك لم يرتدع خصومه عن بغيهم وظلمهم وافترائهم على ابن تيمية، بل حشدوا رعاع الناس، من أهل الخرافات والأهواء ضده، وخاصة من يتاجرون بمراقد ومقابر الأموات، ويجنون من العامة والبسطاء الأموال الكثيرة، وكذبوا عليه عند بقية الناس، وألبوا السلطان عليه، حسداً من عند أنفسهم.

‏حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

‏فالقوم أعداء لـه وخصومُ

‏كضرائر الحسناء قلن لوجهها

‏حسدا وبغيا: إنه لدميـمُ

‏ثم تسببوا في سجنه مرات وكرات، وهم لا يرضون إلا بقتله بعد أن كفروه، وأهدر بعضهم دمه، فسجن عدة مرات، ثم جاء سجنه الأخير الذي مات فيه.

‏وأرادوا أن يُمعنوا في إيذائه وهو مسجون، فقاموا بمنعه من الكتابة، ليمنعوا كلمة الحق، حيث صادروا منه أقلامه وكتبه، ووضعوه في زنزانة مظلمة، أضرت ببصره، وكانت مصادرة الأوراق والأقلام أشد شيء على نفس هذا العالم الكبير، فحرموه من كل شيء حتى من كتابة الكلمة!

‏قال ابن عبد الهادي: "فلما كان قبل وفاته بأشهر ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده كله، ولم يبق عنده كتاب ولا ورقة ولا دواة ولا قلم، وكان بعد ذلك إذا كتب ورقة إلى بعض أصحابه يكتبها بفحم، وقد رأيت أوراقا عدة بعثها إلى أصحابه وبعضها مكتوب بفحم".

‏وهذه آخر رسالة كتبها ابن تيمية قبل وفاته بنحو شهر ونصف، كتبها بالفحم لما أخرجوا منه الأقلام والأوراق، فاضطر لغسل رسائل تلاميذه التي كانت ترسل له من قبلهم، ثم الكتابة عليه مرة أخرى. هذا نصها، وهي تفيض بالإيمان والفرح بالله والرضا بقدره والأنس بقربه:

‏"ونحن ولله الحمد والشكر في نعم عظيمة تتزايد كل يوم، ويجدد الله تعالى من نعمه نعماً أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النعم، فإني كنت حريصاً على خروج شيء منها لتقفوا عليه، وهم كرهوا خروج الإخنائية -أي كتابه الذي رد فيه على الإخنائي الصوفي- فاستعملهم الله تعالى في إخراج الجميع، وإلزام  المنازعين بالوقوف عليه، وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق. فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس، فإذا ظهرت: فمن كان قصده الحق هداه الله، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله.

‏ والأوراق التي فيها جواباتكم غُسلت، وأنا طيب وعيناي طيبتان أطيب ما كانتا، ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد والحمد لله حمداً كثيراً طيباً  مباركاً فيه، كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة {إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو القوي العزيز العليم الحكيم} ولا يدخل على أحد ضرر إلا من  ذنوبه {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائماً على كل حال، ويستغفر من ذنوبه فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".

‏قال ابن عبد الهادي معلقاً على هذه الرسالة الأخيرة: "وهذه الورقة كتبها الشيخ وأرسلها بعد خروج الكتب من عنده بأكثر من ثلاثة أشهر في شهر شوال قبل وفاته بنحو شهر ونصف. ولما أخرج ما عنده من الكتب والأوراق أقبل الشيخ على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين، وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة، انتهى في آخر ختمة إلى آخر اقتربت الساعة: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر}".

‏مات ابن تيمية فقيرًا محرومًا من أعز ما يحبه، وهو كتبه وأوراقه، فاضطروه إلى أن يكتب بالفحم ويغسل رسائل تلامذته، أرادوا تعذيب روحه بنزع ما يحبه منه، لكنهم جهلوا مع من يتعاملون، إنهم يجهلون حقيقة هذا الإنسان!

‏أرادوا أن يأخذوا الدنيا منه، يظنون أنه يجزع لأجلها، فتركهم ابن تيمية ودنياهم لهم وأقبل على كتاب ربه ليروي عطشه. فتوقفت عند قوله تعالى "إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر"، ومات... ومن يدري لعل الله أراد له أن يقف بنفسه عيانًا على حقائق تلك الآية، فليس المعاين كالسامع!

‏قال ابن تيمية: "ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".

‏يقول أحمد بن مري الحنبلي في رسالته إلى تلاميذ ابن تيمية: "والله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام، ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه رجالٌ هم إلى الآن في أصلاب آبائهم، وهذه هي سنَّة الله الجارية في عباده وبلاده".

‏فتأمل كيف ظهر أمر شيخ الإسلام ابن تيمية، وطارت كتبه في الآفاق، ووصلت كلمته إلى أقاصي المشرق والمغرب، ونال مئات من الباحثين الدرجات العلمية في دراسة علمه في شتى الفنون، وكتبت فيه آلاف الكتب، وأصبح اسمه على كل لسان، فسبحان الله!

قال ابن تيمية عن خصومه: "أنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات. وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن الخير ما أحبه لنفسي".

‏قال القاضي ابن مخلوف -أحد خصوم ابن تيمية الذين سعوا في سجنه بعد أن سامحه ابن تيمية ودافع عنه-: "ما رأيت كريماُ واسع الصدر مثل ابن تيمية فقد أثرنا الدولة ضده، ولكنه عفا عنا بعد المقدرة، حتى دافع عن أنفسنا وقام بحمايتنا، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا".

‏قال ابن فضل الله العمري: "كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه فيصل به الفقراء". وقال آخر ممن عاصره: "كان يتفضل من قوته الرغيف والرغيفين، فيؤثر بذلك على نفسه"!.

‏وفي آخر لحظاته في هذه الحياة الدنيا، وهو في السجن البارد الضيق مظلومًا، أخبر ابن تيمية صديقه وصاحبه في السجن الشيخ عبدالله الزرعي: بأنه سامح جميع أعدائه وحللهم من عداوته وسبّه!

‏رحمه الله شيخ الإسلام، وأسكنه فسيح جناته.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply