في وفاة بنان الطنطاوي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

في مثل هذا اليوم (17) آذار من عام (1981م)، الساعة التاسعة والنصف صباحًا:

قُطفتْ وردةٌ دمشقية لها ثمانٌ وثلاثون ورقة !

مِن عادة الأزهار والوُرود أنها تفوح عبيرًا ونسيمًا صباحًا، ولكنْ وردتُنا الدمشقيةُ العُقيبيَّة هذه فاضتْ بمثل هذا اليوم إلى بارئِها ...

وردتُنا تِلكمُ مختلفةٌ عن كلِّ وُرود الأرض، فكلُّ مَن عرفها أو كان قريبًا منها أدرك أنها خاليةُ الأشواك، لا تملك أنْ تمسَّ ظلَّ أحدٍ بسوء !

لا يمتلك أبناءُ دمشقَ أو مَن زارها إذا رأوا ياسمينًا إلا أنْ يذكروا دمشقَ وجنباتِها وحاراتِها، فإنك لا ريبَ سترى فيها الياسمينَ هنالك، أو تشمُّه مِن هناك ...

إلا أني ربما أختلف عنهم وأُخالفهم، فالياسمينُ الدمشقيُّ يُذكِّرني بالوردة الجوريَّة الدمشقية، والبعضُ لا يعلم أنَّ أوربا لم تعرف الوردَ الجوريَّ إلا بعدَ أن انتقل مِن سوريةَ إليها مذ ثمانيةِ قرونٍ بعدَ رجوعِ الحملات الصليبية.

ومِن العجيب الغريب أنَّ وردتَنا التي أتكلم عليها اليوم، عندما اقترنتْ بشقيقِ روحِها لم تطلب منه شيئًا مِن بهارج الدنيا إلا أنْ يُبقيَها في دمشقَ ولا يُخرجَها منها، ولكنهما أُخرجا راغمينَ في سبيل هدفٍ سامٍ ومشروعٍ نبيل ...

هذه الوردةُ الدمشقية كتبتْ إلى زوجها بعدَ أنْ خرجا مِن دمشقَ قائلةً:

(لن يكونَ هناك من شيءٍ أجلَّ في عيني ولا أحبَّ إلى قلبي مِن أنْ أعيشَ معكَ أبسطَ حياةٍ وأصعبَها وأخطرَها في أيِّ مكانٍ من الأمكنة أو ظرفٍ من الظروف، ما دام هذا كلُّه في سبيل الله عزَّ وجلَّ، ومِن أجلِ مصلحةِ الإسلام والمسلمين).

دعْكم مِن قصص الحبِّ الخيالية بينَ رجلٍ وامرأة، فوردتُنا هذه قالت عن زوجها وحبيبها: «فنحن زوجان، وصديقا قلبٍ وفِكر، ورفيقا عقيدةٍ وجهاد»، ومن بديع حبها له: أنها كانت تكتب له رسائلَ تُعبِّر فيها عن حبِّها ومشاعرِها الجياشة تُجاهَه، مع كونها تعيش معه ببيتٍ واحد !

وكذلك حالُ زوجِها معها، فقد قال لي عنها: «تربَّتْ معي وتعلَّمتْ عندي اللغةَ والأدبَ والتاريخ وغيرَ ذلك، أحبَّتني وأحببتُها، تعلَّقتْ بي وتعلَّقتُ بها، فإنْ كتبتْ فكأنني أكتب أنا، وإنْ تكلمتْ فكأنني أتكلم أنا»، وقد قال فيها:

بنان لقد طال الفراقُ وأوحشتْ # دروبي ولكني المهندُ ماضيا

تسيل حروفي إذ أُناجيكِ رقَّةً # وينزف قلبي أدمعًا وقوافيا

ولُقياكِ في عدنٍ عزائيَ و الرجا # فلا خيَّبَ الرحمنُ مني رجائيا

ليس عبثًا أنْ يكونَ أولُ مَن دخل قلبَه نورُ الإسلام هي امرأة، وليس جزافًا أنْ يكونَ أولُ مَن جاد بنفسه في سبيل الإسلام هي امرأة !

رحمك الله يا سيدةَ دمشقَ وياسمينَها ووردتَها، ففي مثل هذا اليوم قام شخصٌ (لم أستطع أنْ أصفَه بإنسانٍ ولا بمجرمٍ ولا بحجرٍ ولا بأيِّ وصفٍ آخر)، قام شخصٌ بقتلها ببيتها بمدينة أخن بألمانيا، ولا رغبةَ لي بوصفِ ذاك المشهد المفزِع، ولا أُريد سردَ تلك الحادثة الأليمة، ومَن يبغِ ذلك فليبحثْ عنه.

يا لهولِ الفاجعة وعظيمِ النائبة، قتلوا (بنان) بنتَ الشيخِ علي الطنطاوي العُقيبي، وزوجةَ الداعيةِ الكبير المجاهد عصام العطار.

قتلوا (بنان) التي كانت تقول: (ما سمعتُ بطفلٍ مِن أطفالنا أو شابٍّ مِن شبابنا استشهد في سبيل الله إلا تصوَّرتُ أنّني أمُّه وأنه ولدي، وأحسستُ لفقده بمثلِ إحساسِ الأمِّ الرؤومِ لفقد ولدِها البار).

اغتالوا التي كانت تقول: «يا إلهي!  كيف يستطيع إنسانٌ أنْ يقتلَ إنسانًا آخرَ بغير حقٍّ؟! وكيف يستطيع إنسانٌ أنْ يُعذِّبَ إنسانًا مهما كانت الأسباب؟!).

حديثي اليومَ ليس عن امرأةٍ أنثى فحسب، بل عن داعيةٍ مربِّيةٍ مِن الطراز النادر، جمعتْ بينَ حُسنِ المنظر ولباقةِ المعاملة، وبينَ الذكاءِ المتَّقد والغيرةِ على الإسلام.

كلامي عن امرأةٍ تتكلم أربعَ لغاتٍ لتؤدِّيَ وظيفتَها في الدعوة إلى الله تعالى.

كان مَن حولها مِن أحبابها وأهلها يرغبون بتسميتها (ابتسام)؛ لكثرة ابتسامتها الجميلة الحنونة، ويرغبون أحيانًا بتسميتها: (لطيفة)؛ للُطفها في معاملتها وحرصِها على مشاعرِ الآخرين ...

فليس بمستغربٍ عنها أنها كانت تُصرُّ على ركوبِ سيارةِ زوجِها قبلَه؛ خشيةَ وجودِ قنبلةٍ فيها، وتَفديه بروحها..

كانت تحرص على توفير الجوِّ الهادئ لكتابة زوجها، وتعملُ جاهدةً على حمل أعباءِ الدعوةِ معه، وعندَ إصابتِه بالشلل كتبتْ له:

(لا تحزن يا عصام، إنك إنْ عجزتَ عن السَّير سِرتَ بأقدامنا، وإنْ عجزتَ عن الكتابة كتبتَ بأيدينا، تابعْ طريقَك الإسلاميَّ المستقلَّ المتميِّزَ الذي سلكتَه وآمنتَ به، فنحن معكَ على الدَّوام، نأكلُ معك إن اضطُررنا الخبزَ اليابس، وننام معك تحتَ خيمةٍ من الخيام. ولا أُحبُّك وأُعجَبُ بك يا عصامُ لأنني أرى مِن ورائِك الناس، ولكنْ أُحبُّك وأُعجَبُ بك لأنك تستطيع أنْ تقفَ مع الحقِّ على الدَّوام، ولو تخلَّى عنك مِن أجل ذلك أقربُ الناس).

ظنَّ المجرمون أنهم بقتلها سيُخمدون أريجَها وعبيرَها، وما عرفوا أنهم كثَّروا مِن فَوحِها وشذاها، وجعلوها أُسطورةَ جهادٍ ونبراسَ أملٍ، وشعلةَ دعوةٍ لن تنطفئَ بإذن الله تعالى ...

يا بنان: لا تحسبي أنَّ لك اثنينِ مِن الذرِّية فحسب، فأنا أحسب نفسي ولدًا مِن أولادك، وكثيرون هم الذين يحسبون حالَهم مثلي كذلك ...

يا سيدتي يا بنان: تعلمنا منك أنَّ المسلمَ يجب أنْ يكونَ أبًا للمسلمين، واسترشدنا منك أنَّ المسلمةَ هي أمٌّ رؤوم لكل المسلمين ...

أكتفي بهذا القدر وأكفُّ عِنانَ قلمي خوفًا مِن غَيرةِ زوجٍ أو مشاعرِ ابنٍ، غيرَ أني أقول لك يا بنان ويا ابنةَ دمشقَ الشام: (هنيئًا لك الشهادة، وموعدُنا في الفردوس الأعلى، بإذن ربنا جلَّ وعلا).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply