زيارة جبلي النور وثور


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

يرتبط اسم غار حراء في ذهن كل مسلم بإرهاصات الرسالة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والتي تعد بحق الخيوط الأولى لفجر نور الإسلام الذي عمَّ العالم بأسرة، وأخرج الله به أمما لا تحصى من الظلمات إلى النور.

كما أن غار ثور يرتبط بالخطوات الأولى للهجرة العظيمة التي هي في نظر كل مسلم البداية العملية لتأسيس دولة الإسلام التي أخذت على عاتقها منذ إنشائها مهمة تبليغ رسالة الله إلى كل الأرض، وإنقاذ كل من آمن بهذه الرسالة من ربقة الاستعباد للعباد إلى الاستعباد لرب العباد.

بهذه العبارات اليسيرة يمكن أن نجمل مشاعر المسلمين تجاه هذين الأثرين، وهي المشاعر التي تدفع بهم إلى زيارة جبلي حراء وثور عند قدومهم إلى مكة حاجين أو معتمرين، وتهون لأجلها عندهم كثرة الصعاب التي تحول بينهم وبين هذه الغاية القلبية من وعورة الجبل وضعف البنية وشدة الحر.

 وكان مما لابد منه أن يحرر القول في حكم ما يفعلونه، فإن كان محضورا حيل بينهم وبينه؛ إعانة لهم على الخير، وتحقيقا لمقاصد الشريعة من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإن كان مباحاً خلي بينهم وبين مقصدهم، بل وكان لزاما علينا السعي لاستثمار شعورهم هذا بما يعود بالمنفعة على الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فلم أجد فيما رجعت إليه من فتاوى في هذه المسألة خلافا في أنه لا يجوز اتخاذ زيارة هذين الأثرين عبادة، لأن ذلك لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أو ضعيف، بل لم يرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدا من أصحابه زارهما.

كما لم أجد خلافا في أنه لا يجوز التبرك بهما؛ لأن البركة إنما تطلب بطريق الشرع، ولم يرد الشرع بشيء من ذلك.

ولم أجد خلافا أيضا في أنه إذا تحقق كون زيارتهما ذريعة للابتداع والشرك فيمنع من زيارتهما إجراء لقاعدة سد الذريعة، والشرك والبدعة والقول على الله تعالى بغير علم من أعظم الأمور التي ينبغي سد الذرائع الموصلة إليها.

ووجدت أن الخلاف في الحقيقة منحصر في أمر هو : هل زيارة الغارين ذريعة للبدعة أم ليست ذريعة لها؟

فمن يرى الجواز لم يلحظ في صعود المسلمين لرؤية الغار ذريعة إلى البدع، بل رأى فيها تذكر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاعتبار به، وربما حصل من وراء ذلك رقة للقلب تنبعث عن تتبع آثار المحبوب كما قال الشاعر :

وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديارا

ومن رأى المنع من زيارتها لحظ أنها ذريعة للابتداع واعتقاد سنيتها، أو أنها جزء من المناسك، وقد نص ابن تيمية رحمه الله على بدعية زيارة هذين الغارين في فتواه التالية:

(وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر: عرفة ومزدلفة والصفا والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك، فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة) من “مجموع فتاوى ابن تيمية” (26/144).

وهذا القول هو ما يذهب إليه غالب المفتين في المملكة العربية السعودية، وعليه جاءت فتوى اللجنة الدائمة في السؤال التالي، والجواب عنه:

تقع حوادث سقوط بعض الحجاج أثناء صعودهم لجبل النور ونزولهم من الغار، ويقترح بعض الناس القيام بعمل درج يؤدي إلى موقع الغار مع قفل جميع الجهات بشبك حديدي يمنع دخول أي أحد إلا من الطريق المخصص للصعود والنزول.

فأجابوا: “الصعود إلى الغار المذكور ليس من شعائر الحج، ولا من سنن الإسلام، بل إنه بدعة، وذريعة من ذرائع الشرك بالله، وعليه ينبغي أن يمنع الناس من الصعود له، ولا يوضع له درج ولا يسهل الصعود له؛ عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه.

 وقد مضى على بدء نزول الوحي وظهور الإسلام أكثر من أربعة عشر قرنا، ولم نعلم أن أحدا من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته، ولا أئمة المسلمين الذين ولوا أمر المشاعر خلال حقب التاريخ الماضية أنه فعل ذلك، والخير كل الخير في اتباعهم والسير على نهجهم ؛ حسبة لله تعالى، ووفق منهاج رسوله صلى الله عليه وسلم، وسدا لذرائع الشرك “فتاوى اللجنة الدائمة” (11/359).

والملاحظ على فتوى شيخ الإسلام أنه علق الحكم بقصد العبادة، ولذلك حكم ببدعيته, أما اللجنة الدائمة، فعلقت الحكم على سد ذريعة البدعة.

أما الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله فكان في فتواه في لقائه الشهري أكثر تحريراً، حين قال رحمه الله: ”وبعض الناس يتعمد أن يذهب إلى غار حراء يظن أن هذا من السنة، وليس كذلك.

غار حراء غار كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينبأ، ونزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، ولكن لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بعد ذلك، ولا كان الصحابة يقصدونه، وهناك غار آخر يقصده بعض الناس يظن أنه قربة، وهو غار ثور الذي اختفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وإتيانه ليس بسنة ولا قربة إلى الله عز وجل، لكن لو أن الإنسان صعد على جبل حراء أو على جبل ثور من أجل أن يطلع فقط دون أن يتقرب إلى الله بهذا الصعود، فهل ينكر عليه؟

الجواب: لا ينكر عليه، ينكر على الإنسان الذي يذهب يتعبد لله ويتقرب إلى الله بذلك ”انتهى من“ اللقاء الشهري (3/65).

والملاحظ على فتوى الشيخ رحمه الله مراعاة قصد الصاعد إلى الجبل، وأن من صعد للعبادة أو التبرك ينكر عليه، ومن صعد لأجل الاطلاع لا ينكر عليه.

ولا شك أن تمييز مقاصد الناس على كثرتهم أمر متعذر، فهل نغلب جانب الإنكار لكون الغالب هو قصد القربة والبركة والتعبد، أم نغلب جانب ترك الناس وما هم عليه اقتداء بمن سلف من العصور الماضية وعدم محاسبة الناس على نياتهم ؟

كلتا الوجهتين في تقديري لها ما يبررها.

فتغليب جانب الإنكار سدا للذريعة لنا فيه أسوة، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في حادثتين شهيرتين :

أولاهما: أنه صلى الله عليه وسلم حج واعتمر وبقي في مكة زمنا بعد البعثة وأياما بعد الفتح وحجة الوداع، ولم ينقل عنه في رواية صحيحة أو ضعيفة أنه زار هذين الجبلين.

وقد يجاب عن ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يزرهما خشية منه أن تبقى سنة بعده، وقد عرف هذا من أفعاله صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض ما يحبه خشية أن يفرض أو أن يبقى سنة بعده فيشق على أمته.

الآخر: أن أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله قد توافقت على إثبات سد ذرائع الشرك، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ج2/ص: (666) عن أبي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قال: قال لي عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ: “ألا أَبْعَثُكَ على ما بَعَثَنِي عليه رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إلا طَمَسْتَهُ، ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتَهُ”.

وفي صحيح ابن حبان (ج15/ص94) عن أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ خَرَجَ بِنَا مَعَهُ قِبَلَ هَوَازِنَ حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى سِدْرَةِ الْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكِفُونَ حَوْلَهَا وَيَدْعُونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((للَّهُ أَكْبَرُ إِنَّهَا السُّنَنُ هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((إِنَّكُمْ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ)).

وقد يجاب عنه بأن الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبوا العهد بحقيقة الشرك، فكان من إكمال الدين وإتمام الدعوة القضاء على كل ما يدعو إلى الشرك أو يذكر به، ولا شك أن قياس عصرنا على عصر الرسالة قياس فيه نظر، كما أن الذرائع يمكن أن تسد بطريق آخر غير المنع.

كما أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سد الذرائع الموصلة للشرك، ومن أبرز الأحداث الواردة في ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (ج2/ص150) عن نَافِعٍ قال بَلَغَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ أَنَّ أناسا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ التي بُويِعَ تَحْتَهَا قال فَأَمَرَ بها فَقُطِعَتْ.

وقد يجاب عن ذلك بأن الخبر مرسل، وعلى فرض صحته فإن الشجرة التي قطعها عمر ليس الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى البخاري في صحيحه (ج3/ص1080) عن نَافِعٍ قال قال بن عُمَرَ رضي الله عنهما: “رَجَعْنَا من الْعَامِ الْمُقْبِلِ فما اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ على الشَّجَرَةِ التي بَايَعْنَا تَحْتَهَا كانت رَحْمَةً من اللَّهِ”.

وجاء في صحيح مسلم (ج3/ص1485) عن سَعِيدِ بن الْمُسَيَّبِ قال: “كان أبي مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الشَّجَرَةِ قال: “فَانْطَلَقْنَا في قَابِلٍ حَاجِّينَ فَخَفِيَ عَلَيْنَا مَكَانُهَا فَإِنْ كانت تَبَيَّنَتْ لَكُمْ فَأَنْتُمْ أَعلم”.

كما أن عمر رضي الله عنه قطعها لأن الناس اتخذوها مسجداً، وليس لمجرد أنهم كانوا يأتون لرؤيتها، فتحققت ذريعة الافتتان بها، ولا نختلف في أنه إذا تحققت ذريعة الافتتان بغار حراء أو ثور أنه يمنع الناس من زيارتهما، لكن نحن ندعي أن الذريعة لم تتحقق، وفي حال تحققها فإنه يمكن سدها بغير منع الناس من زيارة هذين الموضعين.

يدلك على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا من عام قابل رؤيتها، واجتازوا إليها وهم قاصدون من المدينة فلم يستطيعوا التحقق منها، مع أنها لم تكن في طريق القادم من مكة إلى المدينة، وإنما جعلها الرسول في طريقه إلى مكة في غزوة الحديبية تضليلا لأعدائه لما عرف عنه أنه إذا أراد أرضا ورى بغيرها.

أما تغليب جانب ترك الناس وما هم عليه من زيارة هذين الأثرين دون تكلف الإنكار عليهم فيعضده أمران:

 

_أولهما: أمر الله تعالى بالسير في آثار من سلف من الأمم للإعتبار.

 وذلك في مثل قوله تعالى: (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام:11]

قال القرطبي عند هذه الآية: أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين: سافروا في الأرض فانظروا واختبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب، وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار. اهـ (6/ 398).

ولا شك أن آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر فيما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الضعف وقلة الحيلة، ثم ما آل إليه أمر الإسلام من العز، وما كان عليه الكفر من السطوة حتى كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هاجر من أحب بلاد الله إليه، ثم انتهى أمر الإسلام إلى ما انتهى إليه من العز والدولة والمنعة، كل ذلك يجعل تلك الآثار حرية بالسير فيها والاعتبار بها.

_الآخر: أن الإنكار في زيارة مثل هذه البقاع دون قصد التعبد والتبرك لم يرد عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا أحد من العلماء من بعدهم، بل قد ورد عن الإمام أحمد وهو إمام أهل الحديث أنه اختبأ في الغار ثلاثا، شرح الكوكب (2/181)

 واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله الجبلية اختلف الأصوليون في حكمه على قولين:

أحدهما الإباحة، والآخر الندب.

 ولم يرد عن أحد أنه محرم أم مكروه، وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريق المعرور بن سويد قال: “خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله، فقال عمر: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض، مصنف ابن أبي شيبة (2/151).

 فإنما كان إنكاره رضي الله عنه لكون الصلاة عبادة توقيفية لا يجوز الابتداع في مكانها كما لا يجوز الابتداع في صفتها، ولم ينكر في فعل جبلي كالصعود إلى الغار، بل الوارد عن ابنه عبدالله بن عمر تتبع آثار رسول الله في أفعاله الجبلية، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك.

جاء في صحيح ابن حبان (ج15/ص551) عن نافع قال: “كان ابن عمر يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل فيه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فكان ابن عمر يجيء بالماء فيصبه في أصل السمرة كي لا تيبس”.

 

فإذا كان لكلا القولين ما يعضده فأيهما هو الراجح؟

أمّا كون الصعود إلى الجبلين ذريعة للإبتداع والتبرك بما لم يشرع كونه محلا للبركة، فهذا فيما يبدو لي من الأمور التي أثبت التاريخ والواقع تحققها، وإثبات ذلك أمر لا يعسر.

فأمّا من جهة التاريخ، فإنه لم يوجد أثر من الآثار الدينية في جميع أنحاء العالم الإسلامي إلا ووقع في تمكين الناس منه من البدع والخرافات ما لا يخفى على ذي عينين، بل إن من الآثار التي وقع الناس في الابتداع فيها آثار مزعومة ليس لها أصل معروف ككثير من المقامات المنتشرة في ديار المسلمين.

أما الواقع:

فإن هذين الجبلين لم يعودا ذريعة للابتداع، بل إن الابتداع أصبح أمرا واقعا لديهما، فلو سألت الصاعدين اليوم من الحجيج والمعتمرين إلى هذا الجبل عن الغرض من صعودهم لتبين لك أن السواد الأعظم منهم يعتقدون أن للصلاة والدعاء من الفضل ورجاء الإجابة عند الغارين ما ليس لهما عند سواهما من الأماكن، حتى إنك لترى الشيوخ الطاعنين والعجائز الهرمات يتكلفون للصعود إليهما ما لا يتكلفون للعبادات المشروعة.

لكن المنع من الصعود إليهما ليس مجديا في درء هذه المفسدة، بل أزعم أن تجارب المنع أو التضييق على الصاعدين أثمرت مفاسد كثيرة، منها:

(1) نقمة كثير من الناس على المنهج السلفي الذي فيما يتوهمون هو السبب في الحيلولة بينهم وبين الوقوف على آثار نبيهم صلى الله عليه وسلم، لأنه منهج لا يركز كما ينبغي على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان السلفيون محبين للنبي لأحبوا آثاره شأن صحابة رسول الله الذين كانوا يتسابقون على شعره وأظافره ونخامته.

وللأسف لا تجد هذه الأسئلة والشبه التي تتوارد على المسلمين عند المنع أو التضييق جوابا قويا بقدر ما تجد هذه الشبه دعماً من جهات علمية ذات مواقف سيئة من المنهج السلفي.

(2) سقوط عدد من الزائرين جراء المشقة التي يعانونها عند صعودهم عبر الطريق عير المهيأة، والتي أوصت اللجنة الدائمة بعدم تغييرها، ولاشك أن درء هذا الخطر عن الناس من أعظم المصالح التي ينبغي جلبها حتى لو خالفناهم في حكم الصعود إلى هذين الغارين.

(3) استغلال كثير من الجهلة الوضع المهمل لدى هذين الغارين في التسويق لمزيد من البدع، أو استغلال الزائرين ماديا بشتى صنوف الاستغلال الممكنة.

إذا فالمفاسد التي تحدث من الصعود إلى هذين الغارين لا يمكن أن يكون المنع أو الحكم بالتحريم وسيلة لدرئها.

وبما أن المطلوب هو درء المفسدة لا غير فإن بإمكاننا أن نجد وسيلة نحقق بها درء المفسدة، ولا يترتب عليها هي أيضا مفاسد كما هو حاصل مع المنع والتحريم.

بل يمكننا أن نجد وسيلة تتحقق منها مصالح عظيمة، إضافة إلى ما ينتج عنها من إلغاء المفاسد.

هذه الوسيلة هي تنظيم الصعود إلى هذين الغارين، والعناية بالصاعدين قبل صعودهم وبعده توعوياً وجسدياً.

وذلك بإنشاء نقاط للصعود يتم ترتيب الناس وتوعيتهم بمختلف لغاتهم وتنبيههم إلى مكانة هذين الجبلين الحقيقية، وأنها لا تعدو أن تكون مكانة تاريخية، ولا يجوز اختصاصها بشيء من العبادة.

كما يتم من خلال هذه النقاط مراقبة تصرفات الزائرين، وإيقاف من أراد ممارسة أي نوع من البدع بطريقة لائقة بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

وبذلك نكون قد أمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ودرأنا المفسدة، وحققنا عددا من المصالح.

منها:

(1) التوعية إلى حقيقة المنهج السلفي، وحقيقة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن ما يحصل لدى المسلم من الرقة عند مشاهدة آثار الني الكريم يمكن استغلالها في إقباله على النصح بالالتزام بسنة الرسول التي تنهى عن الزيادة في الدين والقول على الله بغير علم.، وهذا هو خلاصة منهج السلف الذي ننتسب إليه.

(2) الرد العملي على ما يقال عن السلفية أنها دعوة مناهضة لمحبة الرسول واتباع آثاره، كما أنها دعوة تحجر على حرية الناس في اختيار ما يشاهدون.

(3) القضاء بإذن الله على ما ينتج عن إهمال هذين الجبلين من حوادث سقوط واستغلال تساهم في تشويه صورة الوطن وأهله.

ولعل مثل هذه المصالح هي التي دعت بعض الفقهاء إلى الحكم بسنية ارتياد غار حراء وثور كالنووي رحمه الله حين قال في المجموع (ج8/ص197) (ويستحب أن يزور المواضع المشهورة بالفضل في مكة وهي ثمانية عشر، منها بيت المولد وبيت خديجة ومسجد دار الأرقم والغار الذي في ثور والغار الذي في حراء وقد أوضحتها في كتاب المناسك. والله أعلم)

إذ نجزم أن مراد النووي بالاستحباب: الاستحباب المبني على تغليب المصالح، لا الاستحباب المستند إلى النص، وكأن النووي رحمه الله لحظ في زيارة هذه الأماكن ما يجده الزائر عندها من الرقة حال التذكر والاعتبار بحال الرسول وتاريخ دعوته صلى الله عليه وسلم، ولم يلحظ في عصره ما يمكن أن يقع لدى هذه الأماكن من المفاسد فحكم بالاستحباب.

خطة مقترحة لتنظيم ارتياد جبلي حراء وثور:

إذا تقرر كون ارتياد جبلي حراء وثور مما لا بأس به شرعا شريطة أن يكون لقصد الرؤية وحسب دون التعبد أو ابتغاء البركة فيما لم يرد الشرع بتخصيصه بالبركة، وتقرر أيضا أن تنظيم هذا الارتياد أولى من منعه؛ لكونه أجلب للمصلحة وأبعد عن المفسدة، فهذه خطة مقترحة لتنظيم هذا الارتياد، بحيث يتحقق من ارتياده ما نبتغيه من جلب المصالح ودرء المفاسد.

خطوات التنظيم المقترح :

أولاً: إنتاج فلم سينمائي تسجيلي مدته ربع ساعة على أعلى مستويات الإخراج التسجيلي، وتوفر له أفضل إمكانات الإنتاج، ولا مانع أن يقام من أجله مسابقة للسينما التسجيلية للوصول إلى أفضل مستوى ممكن من حيث الإنتاج والإخراج ووفرة المعلومات والقدرة على التأثير في المشاهد.

ويتضمن الفلم المقترح ما يلي :

1- الحدث التاريخي الذي جعل لهذين الجبلين كل هذه المكانة التاريخية.

2- اقتصار مكانة الجبلين على جانبها التاريخي، وأنه ليس لهما مكان في العبادات والاعتقاد.

3- أن من عظمة الإسلام أن لا يعبد الله تعالى إلا بما شرع، ولا يتقرب إليه إلا بما شرع، وليس مما شرعه الله تعالى التقرب إليه عند هذين الأثرين.

وقد ثبت بتجربة ما للإنتاج السينمائي المتميز من القدرة على التأثير على القلوب والعقول مما يجعلنا نشعر بتقصير كبير حين لا نستفيد من هذه التقنية، لاسيما وأن من السعوديين من حصدوا جوائز دولية في مجال السينما التسجيلية.

ويطبع الفلم على ست نسخ يصاحب كل نسخة تعليق صوتي بإحدى اللغات الحية التي يتداولها المسلمون كما يصاحبها تعليق كتابي بلغة أخرى، وبذلك يكون الفلم مترجماً إلى اثني عشر لغة مكتوبة ومسموعة.

ثانياً: ينشأ لدى كل من الجبلين نقطة للصعود والعودة تشتمل كل نقطة على عدد من المنشآت منها:

1- ست قاعات لمشاهدة الفلم التسجيلي بنسخه الست، تستوعب كل قاعة عشرين مشاهدا.

2- قاعة للتوجيه والإرشاد.

3- صالتان للانتظار.

4- ممر لتحديد عدد من يسمح لهم بالصعود.

5- محل لبيع المأكولات الخفيفة والماء والمرطبات.

6- غرفة عيادة طبية يشغلها طبيب وممرض وتحت سيطرتها سيارة إسعاف للنقل العاجل.

ثالثاً: طباعة مطويات دعوية توزع على المرتادين.

رابعاً: طباعة الفلم التسجيلي مضافا إليه محاضرة بلغة الفلم.

خامساً: يراعى في المطويات والمحاضرات أن تكون بقلم وبصوت أحد علماء العالم الإسلامي المشهود لهم بانتهاج المنهج السلفي القويم، وذلك كي يعلم المرتادون أن هذا المنهج بعيد عن الإقليمية كما يروج له أعداؤه.

سادساً: تشغل القاعة المعدة للتوجيه والإرشاد بأحد الدعاة المتميزين لإرشاد الناس إلى ما يحتاجون الإرشاد إليه، والإجابة عن أسئلتهم التاريخية والدينية.

سابعاً: يشترط في الدعاة الذين يحضرون إلى هذين الأثرين أن يجتازوا دورة علمية قصيرة في أصول الإرشاد والتوجيه.

ثامناً: مع إبقاء الجبلين على حالهما دون عبث تحت أي مسمى كان، يعاد تحسين الدرج القديم، وينشأ نقاط للإستراحة أثناء الطريق الجبلي.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply