عجوة المدينة.. أم التمر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

قد خصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مدينتَه طيبةَ بخصائص عظيمة، صحَّتْ بها الأخبار، فهي حَرَمٌ، مباركةٌ، طيِّبةٌ، مُحَصَّنةٌ، كان إذا قدم إليها من سَفَرٍ فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته أي أسرع السير بها من حبها.

ومن تلك الفضائل التي اختصها بها ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضرَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ))، وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن في عجوة العالية شفاء، أو إنها ترياق أول البُكرة)) أي: في الصباح.

والعجوة تمر مشتهرٌ معروفٌ متواترٌ عند أهل المدينة لا يخفى، قال مؤرخ المدينة السمهودي المتوفى سنة (911هـ) في وفاء الوفاء (1 / 62): "ولم تزل العجوة معروفة بالمدينة يأثرها الخلفُ عن السلف، يَعْلَمُها كبيرُهم وصغيرُهم علماً لا يقبلُ التشكيك".

فهي إذن متواترةٌ عند أهل المدينة ينقلها الجيلُ عن الجيل، يعلمها الكبار والصغار، لا تقبل التشكيك، كما قال السمهودي رحمه الله قبل خمسمائة عام!.

كيف لا يكون ذلك وقد ثبت فيها هذه الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، وأهل المدينة أهل زرعٍ، يحفظون أدقَ من ذلك، ولا تزال أسماء مزارع الصحابة القديمة ومواضعها محفوظة حتى اليوم، فضلاً عن ما ورد فيه حديثٌ نبوي صحيح سواءً كان مسجداً أو جبلاً أو وادياً أو بئراً أو بستاناً أو تمراً أو غير ذلك.

والتواتر دليلٌ قوي لا ينكره أحد، وهو مفيد للعلم اليقيني كما قرره علماء الحديث وعلماء أصول الفقه.

 قال ابن حجر في النزهة (41): "وهذا هو المعتمد أن خبر المتواتر يفيد العلم الضروري، وهو: الذي يضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكنه دفعه". والحديث هنا عامٌّ في كلِّ خبر، وليس في خصوص الحديث النبوي.

 وقال ابن قدامة في الروضة (1/347): "فالمتواتر يفيد العلمَ، ويجب تصديقه، وإن لم يدل عليه دليل آخر، وليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرده إلا المتواتر".

وقد كان حديث الإمام السمهودي السابق في بيان تواتر معرفة العجوة رداً على مَنْ أورد احتمالاً بأن يكون المراد نخلاً خاصاً من المدينة لا يُعرف ذلك الوقت، أو أنه مختصٌّ بزمنه صلى الله عليه وسلم فقال في بداية حديثه: "وهو مردود؛ لأن سوق الأحاديث وإيراد العلماء لها وإطباق الناس على التبرك بعجوة المدينة وتمرها يرد التخصيص بزمنه صلى الله عليه وسلم، مع أن الأصل عدمه".

وقد جاءت صفة تمر العجوة مميزة باللون الضارب إلى السواد، وهو أحد أبرز صفاتها، إذ تختلف ألوان تمور المدينة كما هو معلوم لدى أهلها، قال ابن الأثير المتوفي سنة 606هـ في كتابه النهاية: (4 / 188) في بيان لون العجوة: "وهو نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد".

ونقل هذا الوصف عنه عددٌ كبير من الأئمة بلا تعقب أو استدراك فجاء وصفها بالسواد نقلاً عن ابن الأثير بالنص أو بغيره عند كل من:

محمد بن عبد الحق اليفرني (ت: 625 هـ) في الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب.

وشمس الدين الكرماني (ت: 786هـ) في الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري.

 وشمس الدين البرماوي (ت: 831هـ) في اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح.

 وابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ) في فتح الباري شرح صحيح البخاري.

  والسمهودي (ت: 911هـ) في وفاء الوفاء.

 وجمال الدين محمد طاهر بن علي الصديقي الهندي (ت: 986هـ) في مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار، وغيرهم من العلماء.

ووصْفُها بالسواد وتتابع نقل العلماء هذا الوصف، يدل على ثبوته عندهم، ولو كان هذا الوصف غير صحيح لأنكره مؤرخ المدينة وعالمها ونزيلها الإمام السمهودي الذي سكن المدينة أول مرة عام 873هـ ثم أقام فيها غالب حياته حتى توفي بها عام 911هـ.

قال عنه الحافظ السخاوي: "قلَّ أن يكون أحد من أهل المدينة لم يقرأ عليه". وألف فيها كتابه المشهور (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) وهو مطبوع في أربعة أجزاء، وهو عالم بتمور المدينة حيث قال: "وأنواع تمر المدينة كثيرة، ذكرنا ما أمكن جمعه منها في الأصل فبلغ مائة وبضعاً وثلاثين نوعاً". (1/72).

 وقال النووي: " وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّ أَنْوَاعَ نَخْلِ الْمَدِينَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا " (12/ 50).

ومع هذا كله نقل السمهوديُّ وصف العجوة بالسواد ولم يُعقِّب عليه أو يستدرك. بل قال في خلاصة الوفاء (1/183): "والعجوة كما قال ابن الأثير ضرب من التمر أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد". فأقر بما ذكره ابن الأثير صراحة.

وقال الشيخ حليت مسلم رحمه الله (ت: 1412هـ) في كتابه النخيل بين العلم والتجربة (126): "العجوة نخلةٌ عريقةٌ، حجمها متوسط، لون التمرة أسود".

وتمر العجوة من الشهرة بمكان بحيث لا يمكن أن يقع اللبس فيه أو التشكيك، قال أَبُو حنيفَة: "العَجْوَةُ بالحجاز أم التَّمْر الَّذِي إِلَيْهِ الْمرجع كالشهريز بِالْبَصْرَةِ والتبي بِالْبَحْرَيْنِ والجذامي بِالْيَمَامَةِ". المحكم والمحيط الأعظم: (2 / 282). فإذا كان هو أم التمر، فهل تخفى صفته، ويلتبس!.

وقد وقع اللبس لدى بعض الفضلاء، في صفة العجوة، فنفى كونها العجوة المشتهرة المعروفة بسوادها، وذكر أنه طعام للبهائم ولا يصلح أن يأكله الآدمي، وأن اسمه لدى كبار السن من أهل المدينة والمتخصصين من المزارعين بـ (الوزنة)، وأنه رديء جداً، لأنهم يطعمونه البهائم قديماً، وأنه يُغسل ويوضع عليه العسل في عُلب فاخرة، ثم يباع على أنه العجوة!. وأن العجوة لا تنبت إلا في عالية المدينة في العوالي. وأن لونها عسلي (بني فاتح)، وأنها لا تؤكل أبداً، وليس فيه طعم.

وهذه أمور مهمة تحتاج إلى بيان:

فأما كون هذه العجوة المنتشرة لا تصلح للأكل للآدمي، وأنها للبهائم، فهو قولٌ غريب، فلا يزال أهل المدينة يأكلونها، من مزارعهم التي توارثوها، ولم يسبق لأحد أن قال بعدم صلاحيتها للأكل، ولم يُصب أهل المدينة بفقدان الذوق حتى لا يميزون بين ما يأكله الآدمي وما لا يصلح إلا للبهائم.

 فهم يميزون بين أنواع التمور بمجرد ذوقها بلا نظر لها فيعرفون رطبها أو تمرها وأصنافها من: العجوة والبرني والعنبر والصقعي والصفاوي والحلوة والحلية والبيض والبرحي والربيعة وغيرها، بل يعرف المتخصصون أنواع النخيل بمجرد النظر إليها.

ثم إن إطعام البهائم من بقايا ما يأكله الناس لا يعني فساد ذوقهم، بل قد يطعمون البهائم مما لا يصلح من جميع أنواع الطعام الذي لم ينضج أو أصابته آفة أياً كان نوعه من أجود التمر أو رديئه، والتمر الذي يأكله الإنسان منه الجيد والرديء

 كما جاء في صحيح البخاري عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِنْ أَيْنَ هَذَا؟)، قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: (أَوَّهْ أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِهِ). فدل على أن التمر المأكول منه الرديء والجيد، ولا يعني كونه رديئاً أنه لا يصلح للأكل الآدمي، بل قد يكون في النوع الواحد طيب وأطيب منه ورديء وأردى منه، وهذا عامٌّ في جميع أصناف التمر، فليس كل أنواع رطب الروثانة، أو تمر العجوة أو غيرهما مثل بعض، وهو واقع في التمور التي تنبت خارج المدينة كالسكري والخلاص وغيرهما يختلف طعمه مع اتفاق جنسه ونوعه.

وأمّا كون العجوة لا تنبت إلا في عالية المدينة، فلم يقل به أحد من المزارعين، فغالب أصناف التمر تُنقل في جميع نواحي المدينة وتنبت كما هو معلوم مشاهد لدى جميع المزارعين فتجد مزارع المدينة من جنوبها إلى شمالها مختلفة النخيل والأشجار، يشتري بعضهم فسيل النخل من بعض ويزرعونه في مزارعهم فينبت بإذن الله.

ومما يجب التنبه له أن عالية المدينة ليست منطقة محصورة بجزء صغير في المدينة بل المدينة منقسمة إلى عالية وسافلة، فما كان جنوب المدينة على بعد ميلين فأكثر من المسجد النبوي فهو من عالية المدينة.

وفي الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِي الْعَوَالِي وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ).

قال النووي في شرح مسلم (5/122): " أَمَّا الْعَوَالِي: فَهِيَ الْقُرَى الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ أَبْعَدُهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَقْرَبُهَا مِيلَانِ وَبَعْضُهَا ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَبِهِ فَسَّرَهَا مَالِكٌ".  وقال السمهودي ( 4 / 1261): "والمعروف: أن ما كان في جهة قبلة المدينة على ميل أو ميلين فأكثر من المسجد النبوي فهو عالية المدينة".

وهي مناطق عامرة بالبساتين والحدائق.

قال الفيروز آبادي (ت: 823هـ) في كتابه المغانم المطابة في معالم طابة (286): "العوالي: ضيعة عامرة بينها وبين المدينة ثلاثة أميال، وذلك أدناها، وقيل: أبعدها ثمانية أميال، وهي محفوفة بالحدائق ذات النخيل، والآبار العذبة الكثيرة المياة، ترف بساتينها غضارة ونضارة، ويأتلق عليها رونق الخضارة، تجري في أكثر النهار مذانب تلك الأنهار، المستعارة من الآبار، منسابة في بساتينها الملتفة النخيل، والأشجار، وحدائقها الظليلة اليانعة الثمار، وتنعطف على نخيلها انعطاف المسك والسوار، غير أن جليل شجرها النخيل".

وبهذا يُعلم أنه لا يختص المكان المشهور اليوم بالعوالي دون غيره بهذا الاسم بل يدخل فيه مناطق أخرى كقباء وغيرها.

واختلف العلماء هل تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم العجوة بالعالية مقصود لذاته، أو المقصود عجوة المدينة عامة، أو هو عموم تمر المدينة، قال النووي رحمه الله قال: "فِي الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ بِمَا ذُكِرَ"، وليس الحديث في هذا، بل في صفة العجوة.

وأما وصف لونها بالعسلي أو البني الفاتح فقد سبق بيان لون العجوة، وأهل الزرع في المدينة يصفونها بالسواد، وتختلف درجة سوادها باختلاف تغطيتها وتخييشها أي تغطيتها بالخيش كما هو معلوم.

وأما وصف من يبيعها بأنه يضع عليها العسل، فلم نر ذلك فيما نعلم من أسواق المدينة، وتجارها المعروفين ببيع العجوة، بل نجد مصانع التمر مفتوحة للزوار يرون أصناف التمر في الأماكن المعدة له، ويختارون ما شاءوا من أصناف فيوزن لهم ويشترون، بل حتى ما غُلف من العجوة المعروفة لم نذق فيه طعم العسل، إلا أن يكون خفياً بطريقة لا تظهر لأحد!. وإذا لم يكتشفه أهل المدينة، فلا أظنه يمكن غيرهم أن يكتشفوه.

وأما العزو في نفي كون العجوة هي المنتشرة إلى كبار السن والمتخصصين بالزراعة في المدينة، فهؤلاء هم المرجع الحقيقي في الإثبات والنفي، وقد أثبت عددٌ كبير منهم هذه الصفة للعجوة، وأوضحوا ذلك، في عدد من المقاطع المنتشرة، وسيتم نشر رأيهم قريباً بإذن الله تعالى.

 وختاماً فالقضية هي تتبُّع الأدلة والحكم بموجبها، ومتى ظهر الحق وجب اتباعه، والإقرار به، مع الإقرار للجميع بحسن القصد، نسأل الله تعالى العون والسداد.

وأختم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا للمدينة فقال: ((اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ)) رواه مسلم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply