الاعتكاف وأحكامه


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

اتَّقُوا الله تعالى وأطيعوه، أيها الناس إحسان الظن بالله ليس بالتمني، ولكن إحسانَ الظن به سبحانه بحسن العمل، والرجاءُ في رحمةٍ مع العصيان. ضرب من الحمق والخذلان، والخوفُ ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوفَ بترك ما يُخاف منه العقوبة.

أيها الأحبة قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا خاصة في هذه الأيام.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب عند قوله تعالى: (إن المصّدقين والمصّدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم)

قال "وعمال الآخرة على قسمين، منهم من يعمل على الأجر والثواب، ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة، فهو ينافس غيرَه في الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى، ويسابق إلى القرب منه" انتهى كلامه رحمه الله.

وإنَّ ثَمَّتَ عملاً صالحاً يحصل لمن انشرح صدره أن يسابق وينافس به على المنازل والدرجات العلا، ألا وهو كما عبر عنه ابن رجب رحمه الله في كتابه اللطائف بـ"الخلوة المشروعة لهذه الأمة وهي الاعتكاف،خصوصاً في شهر رمضان، خصوصاً في العشر الأواخر منه كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله" فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له همٌ سوى الله وما يرضيه عنه.

فمعنى الاعتكاف وحقيقته قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق "وليست العزلة المشروعة لتربية النفس وتهذيبها مقصورة على سنة الاعتكاف فحسب بل كان السلف رضي الله عنهم يَحثُّون السالك على اختلاس أوقاتٍ يخلو فيها بنفسه للذكر أو الفكر أو المحاسبة أو غيرها.

 قال عمر رضي الله عنه "خذوا بحظكم من العزلة"

وقال مسروق رحمه الله "إن المرء لحقيق أن يكون له مجالسٌ يخلو فيها يتذكرُ ذنوبه، فيستغفرُ منها" ويوصينا ابن الجوزي رحمه الله في كتابه صيد الخاطر بالعزلة فيقول "فيا للعزلة ما ألذها فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل، والسلامة من شر المخالطة كفى" ويقول "ولأَن أنفعَ نفسي وحدي خير لي من أنفع غيري وأتضرر الصبر الصبر على ما توجبه العزلة، فإنه إن انفردتَ بمولاك فتح لك باب معرفته".

إن أهم ما يُعنى به المُوفَّقُ لطاعة مولاه هو إصلاح تلك المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وفي الصوم والاعتكاف من الإصلاح الشيء الكثير.

إن الاعتكاف سنة فاضلة في زمن فاضل، ولم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاعتكاف، فكان يعتكف كل سنة عَشرَةَ أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، ولقد اعتكف صلى الله عليه وآله وسلم ثم أطلع رأسه من معتكفه في المسجد فكلم الناس، فدنوا منه، فقال (إني اعتكفت العشر الأوّل، ألتمس هذه الليلة، أي ليلة القدر ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف) رواه مسلم.

 وبذلك يُفسَّرُ قولُ عائشة رضي الله عنها "جدّ و شدّ مئزره" بأنه ترك النوم والنساء، وغالباً لا يكون ذلك إلاَّ في الاعتكاف.

يا طلبة العلم لا يُفتح عليكم بالعلم إلا بالاجتهاد في العبادة ولزوم التقوى، ويا أيها الشباب تناديكم امرأة من التابعيات وهي حفصةُ ابنةُ سيرينَ رحمها الله فتقول "يا معشر الشباب اعملوا فإنما العمل في الشباب" ذكره البخاري. ولذلك فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "شاب نشأ في عبادة ربه عز وجل"و..."رجل معلق قلبه بالمساجد" وكلا الوصفين يحصلان في الاعتكاف.

يا من يُقتدى بكم كيف يقتدي الناس بطيب أقوالكم، ولم يروا الطيب من أفعالكم، ومن الناس من يقول أعتمر في العشر أفضل من أن أعتكف.

والحقيقة أن الجمع بينهما أكمل، وإن كان لابد لأحدهما دون الأخر، فالاعتكاف أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعتمر، وإنما يعتكف في مسجده النبوي، وهو لا يفعل إلا الأكمل والأفضل.

 

عباد الله من الفضائل التي تحصل بالاعتكاف الرباط في سبيل الله، وهو انتظار الصلاة بعد الصلاة، والذي رتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم أجراً عظيمًا بأن "يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات وبأن صاحبه في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة مالم يحدث"

أيها المعتكف إذا نويت الاعتكاف لم يجب عليك إتمامه، وجاز لك قطعه، قال ابن باز رحمه الله "وله قطع ذلك إذا دعت الحاجة لذلك لأن الاعتكاف سنة، ولا يجب الشروع إذا لم يكن منذورًا" ولم يرد حديث صحيح في تحديد أقل مدة الاعتكاف، لكن أخذ بعض العلماء من قول عمر رضي الله عنه كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة وفي رواية"يومًا" إنَّ أقل الاعتكاف يوم وليلة، ولعله أقرب للصواب. ولقد ذهب الأئمة الأربعة وجماهير العلماء سلفًا وخلفًا إلى أن المعتكف يدخل معتكَفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها ومن نوى اعتكاف العشر كلها فعليه أن يدخل بغروب شمسِ يومِ عشرين، فلربما كانت ليلة إحدى وعشرين ليلة القدر، أسأل الله تعالى أن يُوَفِّقنا للخيرات، ويُقَوِّينا على اكتساب الحسنات، ويجنبنا السيئات، إنه سميع قريب وأقولُ هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

أما قضيةُ الخروج من المسجد، فقد ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول جائز، وهو الخروج لأمر لابد منه شرعًا أو طبعًا، كالخروج لصلاة الجمعة، والأكل والشرب إن لم يكن له من يأتيه بهما، والخروج للوضوء والغسل الواجبين، ولقضاء حاجة البول والغائط.

الثاني الخروج لطاعة لا تجب عليه، كعيادة المريض وشهود الجنازة، فإنَّ اشترَطه في ابتداءِ اعتكافه جاز وإلا فلا.

الثالث الخروج لأمر ينافي الاعتكاف، كالخروج للبيع والشراء، وجماع أهله ونحو ذلك، فهذا لا يجوز لا بشرط ولا بغير شرط" انتهى كلامه رحمه الله.

وعلى المعتكف أن يتقي الله في خلوته، فلا يضيع وقته بالنوم أو التفكير بلا مصلحة، فضلاً عن فعل الحرام، قال ابن رجب رحمه الله "فإن الهوى يدعو في الخلوة إلى المعاصي، ولهذا قيل إن من أعز الأشياء الورع في الخلوة"  كما أن عليه أن يكثر من الأذكار والاستغفار والدعاء والبكاء، حيث لا يراه أحد.

فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عينا"

وأوصيك أيها المعتكف بكثرة التذلل والانكسار بين يدي الله، فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار بين يديه، وعلى المعتكف أن يختار مَن يُشاركونه هذه العبادة حتى يشجع بعضهم بعضًا ثم بعد ذلك يُقِلُّ الاجتماع بهم والخوض في الحديث معهم.

وبعد أخي الحريصِ على السنة، المريدِ رضوان الله تسابق لهذه الفرصة، فلعلك لا تدركها فيما بعد فإنها (أيامًا معدودات) فعسانا أن ندرك ليلة القدر، فيرانا ربنا ونحن نتعرض لنفحاته، فيشملنا بغفرانه، ويكرمنا برضوانه، ويصيبنا برحمته، ويدخلنا الفردوس من جنته.

قال عَطَاءٌ الخراسَاني رحمه الله تعالى"كَانَ يُقَالُ مَثَلُ المعْتَكِفِ كَمَثَلِ عَبْدٍ، أَلْقَى نَفْسَهُ بَينَ يَدَي رَبِّهِ، ثُم قَالَ رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي، رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي"

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. اللهم اجعلنا ممن أدرك ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، وفاز بالثواب الجزيل والأجر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply