الفصل الأخير من حياة كبار السن


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

الفصل الأخير من حياة كبار السن – سليم بن عمارة

25  ديسمبر من كلّ سنة، العشاء المقدس للعائلات الغربية، في عموم أوروبا، هذا العشاء هوالأهم في احتفالات أعياد الميلاد، يعود فيها الأولاد بمختلف أعمارهم لبيت الوالدة والوالد أوالجدّ والجدة، ويجتمعون على مائدة طعام دسمة يساهم كلّ واحد فيها بنوع من الطعام.

ككل سنة في أسبانيا، يلفت نظري هذا اليوم وأتعجب من تفاصيله التي تعكس ثقافة الشعب وعادات المجتمع.

يعتبر هذا اليوم يوم الأسرة وصلة الأرحام بإمتياز، يجتمع الآباء والأبناء والأحفاد للعشاء سويا، في بيوت لم تجهز لإستيعاب أكثر من زوجين وطفل وكلب أوكلبين أوأكثر!!!! فليس غريبًا أن يأتي الضيوف بكراسي مطوية معهم وأحيانا الصحون والملاعق فالبيوت هنا لا تحتمل أثاثًا أوأواني فوق الحاجة فلا ضيوف خلال العام !!!

عل صعيد آخر؛ تصطف السيارات الفارهة في طابور طويل أمام دور العجزة (أغلب السيارات لأناس بسطاء وعمال كادحين اقترضوا ثمنها من البنك) لأخذ الأب أوالأم أوالجدّة لتحضر مراسيم العشاء السنوي لساعتين من الزمان، ثم تعاد هذه التحفة البشرية القديمة لدار العجزة تصارع الوحدة والعزلة والكهولة مع المرض.

في الحي الذي أسكن فيه بمدينة برشلونة، أزيد من أحد عشر دار للعجزة، يقطنها شيوخ وعجائز فوق السبعين بعدما عجزوا عن العيش لوحدهم ولا يوجد أي إبن أوقريب يمكنه العيش معهم فمعركة الخبز وسعار الإستهلاك لا يترك وقتا لقيم الأسرة والتضحية وبر الوالدين، ففي الغالب تصفى بيت الكهل بالبيع أوالإيجار ويحوّل عائدها مع معاش تقاعده لهذه الدور التي لها سوق رائج وعوائد خيالية بإستضافتها ملايين العجزة المساكين في غرف الفصل الأخير في إنتظار الأجل.

إنه الوجه القبيح الأبشع للحياة الغربية، فالفردية قيمة مقدسة في المنظومة القيم، ولكلّ فرد نطاق راحة وخريطة حياة وساحة للكدّ والعمل ، من سيبقى مع الأب الكهل أوالأم العجوز ؟؟؟ فوراء الاولاد وظيفة تنتظر وأسرة لها تكاليف، وسيارة وبيت وآثاث ورسوم تعليم الاولاد وكلّها بقروض من البنوك التي تستعبد ملايين الأسر بقيود القروض، وراتب الرجل وزوجته لا يبقى منه إلا الفتات.... لا مكان للراحة أوصلة رحم، فمعسكر الشغل الكبير جفّف رطوبة العواطف وامتص ألياف القلوب: عليك أن تعمل لتستهلك وتستهلك أكثر لتعمل أكثر.... مادمت تستهلك فأنت موجود، وما دمت موجود فأدخل في قطيع المجتمع الكادح المدين للبنوك، الجافي لأصحاب الفضل الأول... الوالدة والوالد، خلاصة الأمر أنّ المال والاقتصاد هو محور الكون والانسان خُلق ليكون في خدمة السوق، فكلّما قيّدناه بحاجيات وكماليات إزدادت حاجته للعمل ساعات أكثر هو وزوجته، لا وقت للمكوث في البيت وليُحمل الطفل الصغير للروضة من قبل الشروق إلى بعد الغروب، و ليختفي كبار السنّ من حلبة الحياة الطاحنة، لا مكان للتضحية هنا، لا مكان لردّ جميل الوالدين الذَيّن بسبب العمل جرّوا أولادهم صغارا لروضة الأطفال، فجرّهم أبناءهم حين كبروا لدار العجزة لنفس السبب!!!! بل بالعكس يفضل كبار السنّ عند عجزهم أن ينسحبوا إلى تلك المؤسسات والدور لكي لا يكونوا عبئا على أبناءهم المساكين، المطحونين في العمل من أجل أقساط قرض البيت والسيارة والآثاث وعطلة الصيف!!!، وترسخت هذه المعاني وتعارف عليها المجتمع في 40سنة الأخيرة، وأصبح الإنسان عبارة عن قطعة غيار في ماكينة الإقتصاد... فإذا شاخت الآلة وصدأت فمصيرها محشر الآلات القديمة في أنتظار أن تذاب أوتتلف.

الفردية الأنانية التي ترفض أي تضحية، والاستهلاك الجشع الذي يزيد من حاجيات الإنسان المادية ويضيّق واجباته الإجتماعية، هما السبب في هذا البلاء العظيم الذي يحرم الاطفال الصغار من العيش مع الجدّ  والجدّة تحت سقف واحد ويقطع سند تواصل الأجيال وتماسكهم ويحرم البيوت من خبرة وتجربة كبار السنّ ويشعرهم أنهم عالة في البيت وليسوا ملوكا كانوا السبب في بناءه وتأسيسه بإنجاب وتربية من أقاموا هذه البيوت، لا أستطيع نسيان جارتي كونسبسيون حين جاء احفادها وابنها ليأخذوها لدار العجزة... بعدما عاشت في بيتها ستين سنة، نصفها وحيدة بعد وفاة زوجها، خرجت من البيت وهي تشهق بالبكاء، وودعتنا ونحن في حزن وبكاء ونحيب وقالت في وداعنا: إنها سنّة الحياة لابد أن نفسح الطريق ونركن بعيدا في تلك الدور، لكي لا نزعج أبناءنا فوراءهم أبناء ومسؤوليات، لابد للموت أن تفسح للحياة !!!.

فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وجعل البر بالوالدين من أسس ديننا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply