المحاضن التربوية من جديد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

تمهيد :

من أعظم نِعَم الله على مجتمعاتنا انتشار المحاضن التربوية في المدن والعواصم والقرى والأرياف. فحلقات تحفيظ وتعليم القرآن الكريم، وجماعات التوعية الإسلامية، ومصليات مدارس البنات، والمكتبات، وأنشطة الكليات والجامعات، ودوريات الموظّفين .. كلها باتت فعاليات طبيعية في مجتمعاتنا.

ولا يخفى تغلغل هذه المحاضن في مجتمعاتنا حتى أصحبت مكوّنًا فاضلا ومؤثّرًا في المجتمع.

وبفضل الله تعالى، ثم بفضل الجهود التربوية المبذولة في هذه المحاضن قاوم المجتمع التغريب بشكل جيّد، واكتسب الجيل حصانة فكرية من تسرُّب المفاهيم المخالفة والأفكار الهدّامة بدرجة عالية، وقاومت الفتاة الكثير من وسائل الإغراء ودعوات التعرّي والرذيلة والتمرّد، وتعلّمت الناشئة حينها العديد من مفاهيم الدين وأحكامه ولا يزالون يعملون بها في حياتهم، وانصقلت مواهب البنين والبنات في هذه المحاضن؛ فظهرت لوامع شخصياتهم ودرر إبداعاتهم في فنون وتخصصات شتّى.

لقد وجد كثير من الآباء والأمهات في هذه المحاضن متنفسًا بريئًا وهادفًا يدفعون إليه أبناءهم وبناتهم دون خوف أو قلق على أخلاقهم وديانتهم.

وواجبنا تجاه أرباب هذه المحاضن شكرهم، والاحتفاء بهم، وإجلالهم والدفاع عنهم والوقوف معهم في قضاء حوائجهم وتسهيل المصاعب لهم، والدعم والمساندة والتطوير والحماية والشعور بأهمية بقائها.

إضافةً إلى تقويمها وتسديدها، وتقديم النصح والمشورة لهم، خاصة في ظِلّ الهجمات المتتابعة التي تُكاد لهذه المحاضن وأربابها والقائمين عليها.

 

الفصل الرابع :

سأطرح في هذا الفصل عددًا من المسائل المتفرّقة التي أرجو أن تكون نقطة التفات وعناية من قبل أرباب المحاضن والقائمين عليها ..

 

النقطة الأولى: بناء الفكرة التربوية

لا شكَّ أن التغيّرات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على مجتمعاتنا ألقت بظلالها على الواقع التربوي في المحاضن التربوية. حتى أصبحت مظاهر هذه التغيّرات لا تخفى على ذي عينين.

مما أحدث ارتباكًا في بناء الفكرة التربوية لعددِ من المحاضن التربوية، وباتَ بعض المربين لا يعرف على وجه التحديد ما هو دوره الحقيقي في المحضن الذي ينتمي إليه.

وارتباك الفكرة التربوية هو عدم اتساق هوية المحضن التربوي وغاياته مع ماجريات التربية من إجراءات وسلوكات ومعالجات.

كما يعني حدوث الغبش في التصورات عن المحضن التربوي، سواء كان غبشًا في ماهية المحضن وكُنْهه وهويته، أو غبشًا في أهدافه على وجه التحديد، أو في دور المربي، ودورة الحياة التربوية والحياة العملية.

وكلُّ هذه الارتباكات ستكون لها تأثير - لا محالة – على الرؤية العامة للمحضن، ومواصفات المنتج التربوي الذي ننشده. كما سيؤدّي – حتمًا – إلى ارتباك السلوك التعليمي والتربوي، وسيُحدث تشتتًا في اتجاهات المربين والمعلمين، وسيقتطع جزءًا من وقتهم في نزاعات داخلية، أو على الأقل في النقاشات والمداخلات الجانبية.

ومن هنا تأتي أهمية بناء الفكرة التربوية، والتي نعني بها : التصوّر المتشكّل في ذهن المربي ووجدانه عن هوية المحضن التربوي الذي يعمل فيه، والغاية التي تأسّس من أجلها.

فمن أهم الأمور في بناء الفكرة التربوية : وضوح هويّة المحضن!

وعلى سبيل المثال: هل هو محضن طليعة قيادية؟ أم هو محضن تربية أصيلة؟ أم هو محضن عام؟ أم هو محضن متخصّص؟ أم هو محضن استقطاب؟.... إلخ.

فإذا قُلْنا: أنه محضن طلائع تربوية؛ فما هي مواصفات هذه الطلائع؟ وما هو المرجو منها لاحقًا؟ وما هي المناهج المفترضة لهذه الطلائع؟ وما نوع المربين الملائمين لهذه المحاضن؟ وما هي صفات هذا المحضن؟... إلخ.

وكذا لو قلنا: إنه محضن تربية أصيلة، أو محضن نخبة، أو محضن لاستقطاب الطلاب وتربيتهم على منهج القرآن الكريم، أو محضن لتخريج مربين يربون الأجيال القادمة على كتاب الله تعالى.. فلكلِّ إجابة اتجاه ومعايير ومواصفات وأدوات وبيئة ومربون ملائمون!

والسؤال:

هل حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المملكة –والتي يفوق عددها العشرين ألف حلقة للبنين والبنات– واضحة الهويّات؟ وهل لديها إجابات واضحة عن كل هذه الأسئلة؟.. ولنَقُلْ مثل ذلك: عن باقي أنواع المحاضن التربوية المنتشرة في بلادنا.

ولو تأملنا في موقف النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن فإنه قال له: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم...". فإننا نجد في هذه الخطة وضوح الإجراءات وكشفًا لهوية المخاطَبين، ولا شيء بعد ذلك إلا النجاح في هذه المهمة التربوية؟

واليوم ازداد التنوّع في شرائح البنين والبنات في مجتمعنا، وأصبح لزامًا علينا أن نُواكب هذا التنوّع في شرائحهم بتنوعٍ في المحاضن التربوية وأهدافها وهوياتها، مما يجعلنا قادرين على استيعاب هذه الشرائح المختلفة والمتنوعة، وذلك ببناء فكرة تربوية واضحة في أذهان المربين، متفقين عليها.

 

 

النقطة الثانية: صياغة الأهداف العامة

إذا حدّدنا هوية المحضن التربوي، وبنينا فكرته، وصنعنا رؤيته، فأولّ خطوة تليها هي صياغة الأهداف العامة له.

لقد كان من السائغ إلى حدٍّ كبير أن تحمل الكثرة من المحاضن التربوية أهدافًا موحّدة، ربما لوجود التشابه الكبير بينها في أغلب العناصر : الطلاب، المجتمع، .. إلخ، أما اليوم ونحن نرى تغيّرات شتى في أنماط الحياة، وتحوّلات هائلة في أوساط النشء والشباب، فإنه يتحتّم علينا إعادة النظر في أهداف كل محضن، وتمييز أهداف المحاضن الاستقطابية عن أهداف المحاضن التأصيلية، وأهداف المحاضن المتخصصة عن أهداف المحاضن العامة، ونحو ذلك، ولو كانت تحت مسمى واحد؛ حلقات تحفيظ أو مكتبات أو نوادٍ أو دور فتيات ...

وصياغة الأهداف العامة بحاجة إلى دراسة لواقع مجتمع المحضن؛ دراسة موضوعية واقعية ترتبط بصياغتنا للأهداف العامة كارتباط الورقة بالقلم.

كما أنّها –صياغة الأهداف العامة- بحاجة إلى فهم أولوياتنا الدعوية والتربوية، وهذا لا يتأتّى إلا بفهم الفكرة التربوية وفلسفة العمل التربوي الذي نحن بصدده.

كذلك علينا أنْ نلتقي بالشباب ونتعرّف على همومهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم، كما علينا أيضًا أن نلتقي بشرائح مجتمعهم : كالآباء والأمهات والمعلمين والموظفين وأصحاب رؤوس الأموال، لنستمع إلى حديثهم عن التربية وعن واقع الشباب وعن أمنياتهم التربوية تجاه الشباب.

 

النقطة الثالثة: من نحن؟ وماذا سنكون؟

هذان السؤالان من أقوى الأسئلة التي تمزّق ذهن المربي؛ حين يكونان بلا إجابة.

وجوابًا على السؤال الأول: فإنّ من معالم المحضن الجيد أنْ يعرف المربين فيه مَنْ هم على وجه التحديد؛ هل هم غارسو قِيَم؟ أم هم صانعو قيادات؟ أم هم أطباء سلوكيون؟ أم هم مؤدبو صبيان؟ أم هم حاضنو تائهين؟ هناك فروقات تقلّ أو تكثر بين المهام لكل نوع من المربين، ولربما كان للمربي أكثر من دور يقوم به في المحضن التربوي، كأن يكون غارسًا للقيم وحاضنًا للتائهين.

وفي جانب آخر، تجدر الإشارة إلى أنّ مسألة اكتشاف المربين، والتعرّف على أنماط شخصياتهم وتعريفهم بها وتعريفهم بفرص العمل التربوي الملائمة لشخصياتهم وتوجيههم إلى المحاضن والأعمال المناسبة؛ بات واجبًا من الواجبات الملقاة على عاتق المحاضن التربوية.

أما السؤال الآخر، وهو أشدُّ ضراوة مِن الذي قبله، وهو : ماذا سنكون؟ ماذا سنكون بعد خمس سنوات؟ عشر سنوات؟ عشرون سنة؟

في واقع الأمر؛ إنه لا توجد إجابات قطعية عن هذا السؤال، لا عند المربي ولا عند مشرفي المحاضن كذلك! لكنّ المربي يُهمّه كثيرًا أنْ يجد ذاته تنمو أثناء قيامه بالمهام التربوية؛ نموًّا يجعله يثق بمستقبله المهني التربوي، كما يجعله يصنع أفكاره ومشاريعه المستقبلية التي يخدم بها أمّته في مسارها التربوي أو الدعوي بشكل عام.

وإنْ كان هذا السؤال والإجابة عليه ليس ذو علاقة مباشرة بالممارسات والإجراءات التي يقوم بها المربي في المحضن، لكنها هي التي ستُورث المعلمين رضًا وطمأنينة عن محضنهم وعن الأسلوب الإداري المتّبع، وهذا الشعور بحدّ ذاته يُعتبر دافع قوي للعمل والإنجاز ومن ثَمَّ الانتماء لذلك العمل.

إذًا عندما يُجيب المحضن التربوي عن سؤالَيّ: من نحن؟ وماذا سنكون؟ إجابة علمية وعملية؛ حينها سيعرف المربي على وجه الدقّة الإجراءات والممارسات الواجب القيام بها في المحضن.

 

النقطة الرابعة: المراجعات الموسمية

والمراجعة الموسمية تعني: أنْ يجتمع العاملون في المحضن بشكل موسمي بغرض المناقشة والمراجعة، وتقصّي الثغرات واستلهام فرص النجاح.

وترسيخ فكرة النقد من الداخل هو أولًا يبني ويُثري ويبعث على الإبداع، كما أنه يُعتبر دعّامة أساسية في البناء الصحيح.

وهذه المراجعات الموسمية والنقد من الداخل يتطلّب شجاعة أدبية كافية، تؤهّل العاملين للنقاش دون خوف من المصير، أو محاسبتهم على التجاوز، ونحوه. كما أنها تتطلّب تجرّد في القصد وإخلاص في النية يجعل من تلك النقاشات وسيلة للنجاح، لا أسلوبًا للتلاوم وإلقاء التُّهَم والانسحاب من الأخطاء، وهذا كله هو مقتضى العمل بروح الجماعة.

 

الفصل الخامس: ركائز النجاح في المحاضن التربوية

يتطلّب المحضن التربوي –أيًّا كان نوعه– إلى ثلاثة ركائز يقوم عليها، وفي كل ركيزة توجد ثلاثة عناصر مهمة هي مكوّنات هذه الركيزة. وبقدر اكتمال هذه الركائز ومكوّناتها يكتمل النجاح والتأثير في المحضن التربوي، والعكس تمامًا.

وهذه الركائز هي: دفء الإخوان، وطعم الإيمان، وتحرير الإنسان.

الركيزة الأولى: دفء الإخوان :

وهي ركيزة تتناول الجانب النفسي والاجتماعي لدى المتربي. فإنّ المحضن التربوي الذكي هو الذي يفطن جيدًا إلى المسألة الإنسانية لدى أفراده. والقرآن يُشير إلى خطورة هذه المسألة في التأثير، ويجعلُ من وجودها منَّة ونعمة، كما في قوله تعالى: {فبما رحمةٍ مِن اللهِ لِنْتَ لهم ولو كُنتَ فظًّا غليظ القلبِ لانفضُّوا من حولِكَ فاعْفُ عنهم واستغفر لهم وشاوِرْهم في الأمر}.

ولا يكتمل هذا الدفء الذي ينشده المتربي في المحضن التربوي إلا بتوفّر ثلاثة عناصر مهمة : المصاحبة، والمواساة، والتثبيت.

1- المصاحبة: والمراد بها مصاحبة المربي لمن يُربّيه. ومن معاني المصاحبة : المعاشرة والملازمة، ومن مقتضياتها حفظ الأصحاب لبعضهم، والانقياد والمتابعة كذلك.

إنّ أولئك الذين يؤمّون المحاضن التربوية كلَّ يومٍ هم بحاجة إلى الشعور بدفء الصحبة والأخوَّة شعورًا حقيقيًا يتملّك وجدانهم، ويبعثهم على حقيقي لمعلميهم.

2- المواساة : والمراد بها المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق.

والمحضن الذكي هو الذي يُواسي فيه المربي المتربين، ويُواسي فيه المتربون بعضهم بعضًا، ويُواسي فيه المتربون مَنْ يقوم على تربيتهم. إنّه جوٌّ من الإخاء يُواسي فيه الإخْوة بعضهم بعضًا، فيُساعد قويُّهم ضعيفَهم، وغنيُّهم فقيرَهم، وعالمُهم جاهلَهم. يُعزّون بعضهم بعضًا في المصائب، ويزورون مريضهم في فراشه، ويُعينون عاجزهم في قضاء حوائجه. بهذا يشعر المتربون بدفء المحضن، وتُشبُّع حاجاتهم النفسية والاجتماعية.

3- التثبيت: والمراد به أن يكون المحضن مُعينًا للمتربي على الثبات على الإيمان والطاعات. وبهذا يجد المتربي في إخوانه ومعلِّميه طوقَ نجاة من الانحراف وعصمةً من الانتكاسة.

وهكذا ينبغي أنْ يكون الحال في المحاضن التربوية : يجدُ الطلاب فيها ما يُثبِّت الإيمان في قلوبهم، سواء من زملائهم أم من معلميهم.

 

الركيزة الثانية: طَعْمُ الإيمان :

فللإيمان طعم وحلاوة لا يذوقها إلا مَنْ حافظ على مقتضيات إيمانه، وثَبَتَ عند ورود الشهوات والشبهات.

وبتذوُّق الطلاب طعمَ الإيمان في المحاضن التربوية تكونُ أرواحهم قد تزوّدت بغذائها اللذيذ، ونفوسهم قد اطمأنّت وارتاحت وهدأت، وتكون حاجاتهم الروحية قد أُشبِعت بحب الله وحب محبوبات الله تعالى.

ولكي يكون المحضن التربوي ملبّيًا لهذه الحاجة عليه أن يقوم بما يأتي :

1- تقديم المواعظ الرقيقة: فالمحضن الذي يُحْسِن انتقاء المواعظ الإيمانية الرقيقة، والتي تُخاطب القلب والوجدان والعقل، وتشتمل على كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتُذكِّر بمواقف الآخرة ومشاهدها... يُسْهم في ترقيق القلب وردع النفس عن ما حرّم الله وحفْزَها إلى ما يُرضيه. وسيكون طعم الإيمان نتيجة حتمية لهذا التسلسل.

2- بناء التصوّرات الإيمانية: فالإيمان مبني على فكرة ومعلومة، والله عز وجل يقول: {فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلهَ إلا اللهُ واسْتَغْفِر لذنبك...}؛ فبَدَأ بالعلم قبل العمل، وهذا يعني أنّ العمل بمقتضيات الإيمان وواجباته مبنيٌّ على العلم به، وفهمه فهمًا صحيحًا سليمًا من الشوائب والنُقصان.

ولا يمكن أنْ يتمَّ ذلك إلا بعرض مفاهيم الإيمان وأركانه عرضًا صحيحًا، يبني عند الطلاب تصوّرات صائبة؛ أسماء الله وصفاته، واليوم الآخِر، والقبر عذابه ونعيمه، وأركان الإسلام، وحقيقة الدين، ومراتبه، وكيفية تحقيقه في الحياة.. إلى غير ذلك من التصوّرات الإيمانية التي يجد فيها الطالب الإجابة الشافية على سؤالاته وإشكالاته، والتي تُشكِّل قناعاته الإيمانية الجديدة المبنية على منهجٍ صحيحٍ سليم.

ولا شكّ أنّ الانطلاق من القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية في بناء تلك التصوّرات هو أفضل طريقة، بل أصحُّ طريقة.

وكمْ هو مهم أنْ يتشبّع الطلاب بكمٍّ هائل من النصوص الشرعية وفهمها، مما يجعلهم قادرين على تنميط حياتهم بدين الله تعالى.

3- حاكمية الوحيّ: والمراد أنْ يجعل المربي من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة حاكمًا على السلوك التربوي، وبمشْهدٍ من الطلاب. بمعنى أنْ يُحاكم سلوك الطلاب وِفْق ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا على الأعراف التربوية، أو أعراف المحضن التربوي.

وهذا سيفيدنا في أربعة جوانب: في جانب التصحيح القويم لسلوكيات الطلاب، وفي جانب غرس مفهوم الحاكمية بشكل بسيط غير معقّد، وفي جانب الأمان النفسي للمتربين في هذه المحاضن، وفي جانب زيادة إيمان المتربين، قال تعالى: {ولو أنّهم فعلوا ما يُوعظون بِهِ لكانَ خيرًا لهم وأشدَّ تثبيتًا}.

 

 الركيزة الثالثة: تحرير الإنسان :

والمراد من ذلك، تحرير الطالب من كل القيود العقلية والوجدانية التي تصادم الشريعة الإسلامية أو لا تتفق معها. بمعنى آخر: صَهْر عقل الطالب ووجدانه في بوتقة التوحيد المحض، حتى يُسْلِم عقله ووجدانه لله ربِّ العالمين.

وتحرير الإنسان عبر المحاضن التربوية يتم من خلال ثلاثة نقاط :

1- الموازنة بين الفردية والجماعية : أي : أنْ يُوفّر المحضن التربوي لطلابه مناخًا فرديًا ومناخًا جماعيًا.

فالمناخ الجماعي هو الذي يتأطّر فيه الطالب بحدود الجماعة، ويتعلّم فيه أدبياتها من الطاعة والنظام والضبط، وتقديم المصالح الكبرى على المصالح الشخصية، ويتربّى فيه على أخلاقيات الأخوّة من الإيثار والتعاون، وخدمة الآخرين، وإحسان الظن بهم، والذّبّ عنهم، ونحو ذلك.

وفي المناخ الجماعي تترسّخ لدى الطالب أهمية الجماعة بمفهومها الكبير، كما تترسّخ لديه خطورة الانعزال عنها؛ حيث الابتعاد إلى حدٍّ ما عن العصمة والصواب.

أما المناخ الفردي فهو الذي يحمي الطالب من الذوبان، ويُبقي على وجهه وحياته وبهائه؛ حيث تظهر بصمته الشخصية، ويُستثمر تفرّده، وتبرز طاقاته الخاصة.

وهذا المناخ –الفردي– هو الذي يُعد من أكثر الأسباب تأثيرًا في قوة المحضن التربوي، فقوة المحضن تكمن في الثراء الحركي والإنتاجي الذي يحتضنه.

فالمحضن المؤثّر هو الذي يجمع للطالب هذين المناخين، فالطالب في مثل هذا المحضن يتربّى على الجماعية وأدبياتها وأخلاقياتها، ويتربّى على الفردية والثقة بالنفس والعمل وفق مسار النمَط الشخصي.

2- تحرير العقل وتنميته: كوْن أحد أولويات التربية الإسلامية هي تحرير العقل البشري من قيود العادات والأعراف الاجتماعية، ونمَط الحياة السائد، والضخّ الإعلامي الهائل وطرائق التعليم ومناهجه، لينطلق -العقل- في فضاء التفكير الواسع.

والتخلّص من تلك القيود الضاغطة – أيًّا كانت: ثقافية أو اجتماعية أو إعلامية – طريقٌ مُعبّد يوصّل إلى الهداية، ويُكوّن الشخصية صاحبة المبادرة الفاعلة والنافعة.

وكمْ نحن بحاجة -في محاضننا– لأصحاب العقول الراشدة والناضجة، التي تستطيع بنفسها أنْ تُميّز بين الخير والشرّ، والصواب والخطأ؟ ولذا يَحسُن بنا أنْ نُجهد أنفسنا في تحقيق تنمية عقلية لطلاب محاضننا، يستطيعون بها نقد الآراء الواردة والأفكار الوافدة، والتي قد ترِد عليهم في ظلّ هذا الانفتاح العولمي.

وحين يجد الطالب في المحضن التربوي بيئة مشجّعة على الرؤية النقدية والتفكير التحليلي؛ فإنّه سيصبح قادرًا على تفسير الظواهر والأحداث والمواقف وتحليلها، وستتسع لديه المدارك وستنمو ثقافته، وهذا في حدّ ذاته مصدر إشباع للحاجة الثقافية لديه.

3- بناء الشخصية: والبيئة التربوية التي يتربّى فيها الطالب كفيلة بتشكيل شخصيته، ورسم ملامح سلوكياته وتصوّراته المستقبلية.

والمحضن الفعّال والمؤثّر هو الذي يعترف بهذه الشخصيات على اختلاف أنماطها وخصائصها، ثم هو لا يكتفي بأنْ يعترف بها، بل يقوم ببنائها وتشييدها بطريقة تجعل منه شخصية متكاملة.

إذا تحقق هذا من خلال المحضن، فإنه كفيل بأنْ يجذب الطلاب ويجعلهم يجدون ذواتهم وتتشبّع لديهم حاجاتهم النفسية، كالحاجة إلى القبول والتقدير.

وهكذا يُساهم المحضن بصقل الطلاب وتنميتهم وجعْلهم أفذاذًا قادرين على تحمُّل المسؤوليات الجسام، صالحين نافعين لأمتهم.

ملخص الفصل الرابع والخامس من كتاب : التربية من جديد لمؤلّفه: فايز بن سعيد الزهراني

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply