فتنة الخروج على ولي الأمر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

الخطبة الأولى:

أيها المسلمون: اتقوا الله وأطيعوه، وراقبوا أمره ولا تعصوه، واشكروه على جميع نعمه: (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].

عباد الله: في أجواء الظلم، توضع الأمور في غير مواضعها، وتقع الأشياء في غير مواقعها، فيعظّمُ الحقيرُ، ويمجّدُ الوضيع، ويوسدُ الأمر إلى غير أهله، وحينئذ تعاني الأممُ الأمرينِ من أحكام الجاهلية ومسالكها، وما استساغ أحدٌ الظلم إلا لظلمة في قلبه، ودخلٍ في طويته، وخللٍ في نفسه: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور: 40].

الظالم -عباد الله- يمتطي سفينة الغفلة، فيردُ موارد الهلاك، يتجرأُ على حقوق الآخرين ليقضي مآربه، دعتهُ قوتُه وجاهه وماله ونفوذه، ليتجاوز الحدود، ويعتدي على الحقوق، غفل عن الوقوف بين يدي جبار السماوات والأرض، فاستبد في ظلمه وطغيانه، لكن عاقبته الحسرةُ والندامة والذلة والمهانة في الدنيا والآخرة: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) [الفرقان: 27].

(يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 52].

وقد حرم الله الظلم على نفسه، وحرمه على جميع خلقه، فقال في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا".

أيها المسلمون: ومع تعاظمِ الظلم ووقوعهِ على بعض الشعوب، والمجتمعات تئنُّ من وطأته الخليقةُ، فيشتكي الناسُ إلى بعضهم، ويطلبون الفرج بشتى الصور، وقد ينادي بعضُ الجهالِ من غوغاء الناس، ودهمائهم بالحرية، ورفع الظلم عن طريق الانتحار، وإحراق الأنفس، ويُنادي بالخروج على السلطان، بالقيام بالهتافات والمسيرات التي تنادي بإسقاط الحكام والولاة التي تشاهدُ اليوم في بعض بلاد المسلمين، دون معرفة العواقب والمآلات؛ مما قد ينتجُ عنه كثيرٌ من المنازعات، والمصادمات، وإراقة الدماء، وسلب الأمن، وانتهاب الممتلكات، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل، وتشفي تلك التصرفات صدورَ الأعداء المتربصين ببلاد المسلمين الدوائر، مما قد تُسبب تلك الاضطراباتُ تدخُّل الأعداءِ في بلاد المسلمين من اليهود والنصارى والرافضة، وغيرهم، فينتجُ عن ذلك ما لا تحمد عقباه. وقد قيل: "ستون سنةً مع إمامٍ جائرٍ خيرٌ من يومٍ بلا إمام".

عباد الله: إن المناداةَ بالخروج على الحكام ناتجٌ عن قلة العلم، وانتشار الجهل، وعدم النظر في العواقب.

فيجب علينا في مثل هذه الظروفِ، والحالات العصيبة التي تمرُّ بالأمة، معرفةُ المنهجِ الصحيح لأهل السنة والجماعة في حكم الخروج على الحاكم، دون تغليبِ وتحكيم العاطفة والهوى، فقد قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم".

قال الراوي: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه، فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة" [رواه مسلم].

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سَلِم، ولكن من رضي وتابع" قالوا: أفلا نُقاتِلهم؟ قال: "لا ما صلوا".

والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: "ولهذا كان المشهورُ من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفسادِ الحاصلِ بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيُدفعُ أعظمُ المفسدتين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكادُ يُعرف طائفةٌ خرجت على ذي سلطانٍ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظمُ من الفساد الذي أزالته".

ويقول رحمه الله في السياسة الشرعية بعد أن ذكر الأثر: "إن السلطان ظل الله في الأرض".

ثم قال: "ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل رحمهما الله وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان".

إلى أن قال رحمه الله: "فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يُتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات" إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

ورحم اللهُ الإمامَ أحمد بن حنبل الذي رفض الخروج على المأمون، وهو الذي فرض على الناس بدعةَ القولِ بخلقِ القرآن، وقال لمن استفتاه في الخروج على ولي الأمر: "سبحان الله! الدماء الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمرُ به، الصبرُ على ما نحن فيه خيرٌ من الفتنة، تُسفك فيها الدماء" قال له السائل: والناسُ اليومَ في فتنة يا أبا عبد الله؟! قال: "وإن كان، فإنما هي فتنةٌ خاصة، فإذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا ويسلم لك دينُك خير لك".

وقال الإمام أحمد رحمه الله: "عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برٌ أو يُستراح من فاجر".

وقال: "ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار".

والحجاج بن يوسف الثقفي قد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتلَ من قتل من سادات الأمة؛ كالصحابي عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وسعيد بن جبير، وغيرهم من أفاضل الصحابة والتابعين، ومع ذلك لم يتوقف أحدٌ من أهل العلم من كبار الصحابة، كعبد الله بن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين في طاعته، والانقياد له، فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته، ولم ينازعوه، ولم يقاتلوه، واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة.

وقال عبد الله بن المبارك: "إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا".

كم يدفع الله بالسلطان معضلة *** في ديننا رحمة منا ودنيانا

لولا الخلافة لم تــأمن لنـا سبلٌ *** وكان أضعفُنا نهبًا لأقوانا

وعلى هذا عباد الله يعتبر ما قام به كثيرٌ من الشباب اليوم في بعض بلاد المسلمين من منازعة الحاكم ومحاربته، والخروج عليه، قياسًا منهم على بعض البلاد التي لا تقام فيها الصلاة، يُعتبر ذلك مصادمةً للنصوص الكثيرة المستفيضة الواردة في طاعة السلطان، وأيضًا مصادمةً لأقوال وأفعال سلف هذه الأمة المباركة وعلمائهم.

وعندما وقعت بعضُ الأحداث المشابهة في زمن كثير من علماء الأمة الراسخين في العلم السابقين واللاحقين إلى وقتنا المعاصر، لم نسمع منهم إلا التأكيد الشديد على عدم الخروج على ولي الأمر، فلماذا لا يقتدي أولئك الشباب بمن مات من العلماء فهو أبعدُ عن الفتنة إن كانوا لا يثقون بالعلماء الأحياء؟!

عباد الله: وتحريمُ الخروجِ على السلطان لا يمنعُ من مناصحته بالمعروف، والمطالبة بإصلاح بعض الأخطاء بالطرق السلمية الصحيحة، بعيدًا عن المواجهة، وإراقة الدماء، قال العلامةُ ابنُ مفلحٍ رحمه الله: "ولا ينكرُ أحدٌ على سلطانٍ إلا وعظًا له وتخويفًا أو تحذيرًا من العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه يجب ويحرمُ بغير ذلك، ذكره القاضي وغيره".

فاتقوا الله عباد الله وأجمعوا كلمتكم على الحق والهدى، واحذروا من الفرقة والنزاع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

فيا أيّها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ). [التوبة: 119].

أيها المسلمون: إننا نعيشُ في هذه البلاد في قوّة وصحّة وأمن، توجبُ الشكرَ لله ذي المنِّ.

وإنّ من حقّ الله علينا وحقّ أجيالنا: المحافظةَ على هذه النعمة بلزوم طاعته سبحانه.

ومع عظيم النعم على بلاد الحرمين، فلا أحدَ يدعي الكمال لهذه الدولة، ولا العصمةَ لهذه البلاد من الخطأ والتقصير، فكلُّ البشر خطاء، لكن السيئات تغمرُ في بحر الحسنات، والمنصفُ من اغتفر قليل الخطأ في كثير الصواب، وولاتها حفظهم الله يقبلون النصح والتوجيه من العلماء والمصلحين، ولكن من المؤكد: أن هذه البلاد صاحبةُ رسالةٍ ومسؤوليةٍ، فهي عمقٌ عميق لأمة الإسلام، تحملُ همّ قضاياها المختلفة، فهي منبعُ الرسالة، ومتنزلُ الوحي، حاضنةُ الحرمين الشريفين، وحاميتهما وخادمتهما، والأمينةُ على مقدسات المسلمين، وهي الدولة المنفردةُ على وجه الأرض اليوم بتحكيم شرع الله، وإقامةِ شعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحاربةِ المسكرات، ومما لا شك فيه: أن المؤثراتِ والأخطار، تحيط بهذه البلاد وبأهلها من قبل الأعداء، فلنكن مع ولاة أمرِنا يدًا واحدة وصفًّا موحّدًا أمام ما يُمكِن أن يُستجدَّ من تحدّيات تستهدف الإسلامَ وتعاليمَه: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply