دلالات مجازية للأساليب الإنشائية في ديوان طيف


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

صدرت المجموعة الشعرية الثانية للشاعر سامي أبوبدر بعنوان "طيف أميرة"، تجمع اثنتين وعشرين قصيدة من شعر التفعيلة والعمودي، جميعها مادة خصبة لقراءات بلاغية وأسلوبية ونقدية، ويتناول هذا المقال قراءة للدلالات المجازية للأساليب الإنشائية في الديوان، واخترت من بينها أسلوبَي الاستفهام والأمر، وهما من الأساليب الإنشائية التي تتنوع طُرقها في الطرح لتكشف عن خبايا النفس وخفاياها.

* أولا: الدلالات المجازية لأسلوب الاستفهام:

معاني الاستفهام أكثر من أن يحاط بها؛ لأنها معانٍ تستنبط من السياق وتأمُّل تراكيبه، والحاكم في ذلك كما يقول التفتازاني: "سلامة الذوق وتتبع التراكيب، فلا ينبغي أن تقتصر في ذلك على معنى سمعته، أو مثال وجدته من غير أن تتخطاه، بل عليك التصرف واستعمال الروية "

ومن المعاني البلاغية للاستفهام في ديوان "طيف أميرة " إجمالاً:

- التقرير: كما في قوله في قصيدته "أنشودتي الأولى":

لم لا وأنت طفولتي وبراءتي؟

ولديك تبدو الأمنيات الخضر

تنثرها يداك على ربانا.

وقوله في قصيدة "خطايا البعاد":

أما كان صدري براحك..

حين تضيق عليك الجهات؟

تعالَ.. وألقِ همومك بين يديَّ

لأحمل عن كاهليك.

- الإنكار: كقوله:

لماذا كلما أدنو أراك مكابرا تنأى؟!

وتهمل بائسًا أضناه أن دواءه عندكْ

وقوله في قصيدة "هروب":

ألا تذكرين حديث الفراق،وقولكِ يومًا:

تَجرَّأْ عليّْ.. ولكن تَذَكَّرْ..

سيأتي بك الشوق حتمًا إلي؟!

وقوله في قصيدة "مِن بعيد":

ألا أيها الليل مُرّْ 

لعل الصباح يجيء بشي يَسُرّْ

لماذا يخاصمني النوم هذا المساء؟

وقوله في قصيدة "أرق":

من ذا الذي يا أمنا أبكاكِ

وغدا يؤرق بالجراح ثراكِ؟

- التعجب: كقوله:

ألم تعلمي؟!

أنت نبض فؤادي وورد دمي

وانتفاضة روحي.

وقوله  في قصيدة "من بعيد":

متى أقرأ الفاتحة ..

على ليلة أرهقتني كثيرًا

ولم ترتحل منذ كنت صبيًا؟!

- الاستبعاد: كما في قوله:

أتلك نهايتي لاحت ..

فأمضي للردى بعدكْ؟

وقوله في قصيدة "خطايا البعاد" :

فهل يعتريك ارتياب بأني تخليت؟

ليتك تعلم أن الخليل يتيم

إذا ما تجاهله خله.

- النفي: كقوله في قصيدته "أنشودتي الأولى:"

مَنْ سوف يؤنس وحشتي؟

فالأرضُ قاحلة ونهري غاضبٌ

* ثانيا: الدلالات المجازية لأسلوب الأمر:

يقول في قصيدته "أنشودتي الأولى":

فصرخت ياااااا ليلي

أغيثيني بربك من عذابات الجوى

إني أحبك فاعلمي.

اشتمل النص على فِعلَي أمر (أغيثيني - فاعلمي)، حيث يخاطب محبوبته (الرمز/ الوطن) ويستغيث بها أن تنقذه من الألم وعذابات الجوى والنوى، ويقسم عليها أن تقوم بهذه المهمة العظيمة، كاشفا أن حبه لها حبٌّ مقدس شريف. أليس حب الأوطان من الدين؟!

ونلاحظ في صياغة هذين الفعلين (أغيثيني - فاعلمي) الإيقاع السريع، الذي تؤكده بنية كل منهما، وهذا بدوره يسهم في إبراز رغبة الشاعر السريعة في إخبار محبوبته بحبه، ورغبته الْمُلِحة في النجاة من العذاب، ويزيد هذا المعنى وضوحًا في قوله في قصيدته "طيف أميرة":

وأنا وأنت حبيبتي كالمشرقين

تحول بينهما المسافات..

ارفقي بي عند أول موعد

يطلب الشاعر رفق حبيبته به عند اللقاء، وقد ألمت به آلام عظام نتيجة اغترابه عنها، ما جعله يصرخ مستغيثا بها لنجدته من معاناته التي جاوزت احتماله، كما نلاحظ أن الوزن العروضي هنا ملائم لحالة الانفعال الشديد والحزن الحاد الذي يعقب المأساة مباشرة، وهو (أي وزن بحر الكامل) من أيسر الأوزان وأسرعها استجابة لحال المكروب.

وفي قصيدته "خطايا البعاد" يُذكِّر الشاعر محبوبته بأنه كان ملاذها وبراحها الذي آوت إليه حين ضاقت بها السبل فيقول مخاطِبا بصيغة المذكر:

أما كان صدري براحك

حين تضيق عليك الجهات؟

تعال .. وألق همومك بين يدي

لأحمل عن كاهليك.

(تعالَ ..وألقِ) فِعْلا أمرٍ، بهما دعا الشاعر محبوبه (الرمز/ الوطن) أن يقترب منه، لا ليرفق به ويخفف هو عنه تلك المرة؛ بل ليتخلص المحبوب نفسه من كل همومه بين يدي شاعرنا؛ فيتحملها عنه، ومن للأوطان إلا أبناؤها المحبون المخلصون؟، وإن فرقت بينهما المسافات والغربة، يبقى الجسد بعيدا لكنه موصول بوطنه قلبا ومهجة وعاطفة وخاطرة وقافية، وأنعم بها من صلات!!

بهذه المشاعر الطيبة، والمواساة المتبادلة، والاحتواء المتكافئ وقت الشدة يشرق فجر الأمل الذي يعبر بهما حدود الليل الحالك إلى نور الصبح ورحابة النهار، والليل نفسه كان من بين من يهيئون موكب الانطلاق لاجتيازه، تتجلى هذه المعاني في قوله في قصيدة "لولا الليل":

الليل نادنا: ائتيا طوعًا ولا تتمردا

إني نسجت خيوط فجركما  

فلا تتعجلا! واستقبلاه بأغنيات الانتصار

وها هو يدعو الوطن، المحبوب الأبرز  في أشعاره ودواوينه الشعرية إلى الثبات وعدم الارتباك وقت الشدائد، فتاريخه المشرف عبر آلاف السنين يبشره بالنصر، ولن يضيره دعاة الشر والتطرف والهدم؛ فيقول في قصيدته "عصا موسى":

قف دون ارتباكْ.. لن يهزموكَ

فلا تهن.. وارفع جبينك 

إنهم من يهدمون وأنت من تبني يداك 

هذه دعوة من الشاعر لوطنه بالثبات وقت الشدة، والاعتزاز بذاته وكرامته التي اتسم بها عبر تاريخه المجيد، ولعمري إن هذه القيم الرفيعة والسمات النبيلة لهي قيم تميز
بها شاعرنا سامي أبوبدر بين أقرانه فمن أخلاقه نقتبس الحب والبناء والثبات، والاعتزاز بالنفس والماضي المجيد للوطن والأجداد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply