اعتكاف القلب والبدن


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:  

شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالمغفرة والرضوان. والرحمة والعتق من النيران، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُبشرُ أصحابه بقدومه، كما خرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه، فهو زمان فاضل للتجارة الرابحة مع الكريم الرحمن.

وكل زمانٍ فاضلٍ من ليلٍ أو نهارٍ فإن آخره أفضلُ من أوَّله، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وشهر رمضان آخره أفضل من أوله، فالعشر الأواخر منه أفضل من العشرين الأولى، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، كما خرجه الإمام مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما، وفي الصحيحين عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.

فينبغي التأسي بالرسول علية الصلاة والسلام والاجتهاد في هذه العشر، بأنواع الطاعات والعبادات، فقد كان علية الصلاة والسلام يخُصُّ العشر الأواخر بأعمالٍ لا يعملها في بقية الشهر.

ومن تلك الأعمال: الاعتكاف، وهو لُزومُ مسجدٍ لطاعة الله، لقوله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد)البقرة: 187.

والاعتكاف موجود في الشرائع السابقة كما هو في شريعتنا، قال تعالى: (عهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) [البقرة:121] وقال سبحانه وتعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود)(الحج:26).

والاعتكاف من أفضل القرب والطاعات، وهو سنة في رمضان، وتتأكد سنيته في العشر الأواخر منه.

وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ليتفرغ لطاعة الله عز وجل، ولإدراك ليلة القدر، التي من وفق لقيامها إيماناً واحتساباً فقد سعد وفاز، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، فقد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه)[متفق عليه] 

الاعتكاف عبادة قلً من يقوم بها، مع أن رسول الله صلى الله عليه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله كما في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين.

وبعض المعتكفين لم يتنبهوا إلى فقه الاعتكاف ومقصوده وروحه، فالنوم، وكثرة الخلطة، والحديث مع الأصحاب، هو الغالب عليهم، فلم يستفيدوا كثيراً من اعتكافهم، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ينبغي أن يعلم المعتكف أنه ليس المرادُ من الاعتكاف أن يكون سحوره وفطوره في المسجد فقط، إنما المراد من الاعتكاف أن يتفرغ للطاعة، وأن ينتظر ليلة القدر... ولا بأس أن يتحدث قليلاً إلى أصحابه الذين معه في الاعتكاف، أو الذين يدخلون لزيارته، فإنه قد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان معتكفاً فزارته صفية – إحدى زوجاته رضي الله عنهن- لكن لا يعني ذلك أن يجعل الإنسان أكبر وقت في اعتكافه أن يتحدث إلى أصحابه، كما يوجد في بعض المعتكفين في المسجد الحرام، أكثر أوقاتهم التحدث فيما بينهم، فإن لم يكن فالنوم، نوم، وحديث، فأين الاعتكاف؟

 

الاعتكاف عبادة يزداد فيها المعتكف إيماناً، وتقوى صلته بالله عز وجل، ومن فوائد الاعتكاف:

* إدراك ليلة القدر، وفرق كبير، وبون واسع، بين من يدرك ليلة القدر وهو منشغل بدنياه في منزله وسوقه، وبين من يدرك ليلة القدر وهو معتكف في المسجد منقطع عن مخالطة الناس، متفرغ لمناجاة الله وذكره ودعائه، لا تراه إلا مصلياً داعياً ذاكراً تالياً للقرآن، يرجو عفو الله، ويسأله أن يوفقه لقيام ليلة القدر، لسانه لا يفتر عن الدعاء الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنهما عندما سألته: أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها ؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تُحبُّ العفو فاعفُ عني )[أخرجه الترمذي] 

* حفظ الصوم من كل فسوق ومعصية تُسمعُ أو تُرى أو تُقال.

* الصبر على طاعة الله، مما يُعينه بعد انتهاء الاعتكاف على الاستمرار على تلك الطاعات التي كان يفعلها في اعتكافه.

* العون على أداء العبادات على وجه ينتفع بها القلب لانقطاع المعتكف عن جميع الملهيات والمشغلات التي كنت تصده عن أداءها كما ينبغي وهو خارج الاعتكاف، فمن وفقه الله وأعانه صلي بخشوع وطمأنينة، وقرأ القرآن الكريم بتدبر، ودعا بحضور قلب، وذكر الله بقلبه ولسانه.

* العون على أداء نوفل العبادات، من: السنن الرواتب وصلاة الضحى، والتقدم للصف الأول، والقرب من الإمام، ومتابعة المؤذن، والإتيان بالأدعية الواردة بعد الأذان، والدعاء بعد الأذان، وإدراك تكبيرة الإحرام، والإتيان بالأذكار الواردة بعد الصلاة، والإتيان بأذكار الصباح والمساء، والبقاء - إن تيسر له- بعد صلاة الفجر في مصلاه إلى أن تطلع الشمس وترتفع قيد رمح، ثم يصلى ركعتين، فقد جاء في السنة أن من فعل ذلك له فضل كبير.

فهذا المعتكف استفاد من اعتكافه، وهذا يكون لمن وفقه الله عز وجل، فأخلص في اعتكافه، وقلل من النوم، والخلطة، والحديث مع الناس، وتفرغ  لطاعة الله عز وجل، وكان معتكفاً بقلبه وجسده، وهذا هو روح الاعتكاف ومقصوده.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الاعتكاف..مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها...فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه.

فطوبى لمن لازموا المساجد في العشر الأواخر من رمضان لطاعة الله إذ الناس غافلون، وطوبى لمن كان من المعتكفين منشغلاً بالعبادة والطاعة إذا رفاقه نائمون ساهون، وطوبى لمن سكب العبرات، وأكثر من المناجاة، وسأل الله العفو وكريم الصفح، وطوبى لمن استمر بعد الاعتكاف على الطاعات والعبادات التي كان يقوم بها في اعتكافه، وطوبي لمن جعل من طول مكثه في المسجد في الاعتكاف بداية أن يكون قلبه بعد الاعتكاف معلق بالمساجد فيكون من السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة في ظله.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply