مجيء النار يوم القيامة وخزنتها وأبوابها


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

عباد الله، لقد خلق الله تبارك وتعالى الجن والإنس ليعبدوه ويوحدوه ويطيعوه، ووعد من أطاعه بالجنة فضلاً منه، وتوعد من عصاه بالنار عدلاً منه، والجنة والنار مخلوقتان لاتفنيان، قال تعالى في الجنة: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وقال في النار:﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾.

وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ".

فالجنة ثواب أولياء الله المطيعين له ولرسله، والنار عقاب أعداء الله العاصين له ولرسله، ولا يظلم ربك أحداً .

عباد الله، في ذلك اليوم الرهيب، والموقف العصيب، أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عن ذلك المجيء الرهيب فقال تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾.

وجهنم عظيمة مخيفة، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا". فيؤتى بجهنم من المكان الذي خلقها الله فيه، إلى أرض المحشر، تسحبها الملائكة فيؤتى بها في الموقف ليراها الناس، ترهيبًا لهم. قال تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) أي أظهرت وكشف عنها، وبرزت واستعدت بجميع ما فيها من العذاب (لِلْغَاوِينَ) الذين أوضعوا في معاصي الله وتجرأوا على محارمه وكذبوا رسله وردوا ما جاءوهم به من الحق.

ومن أوصاف إتيانها: أنها تأتي أهلها بغتة، فتبهتهم وترعبهم وتفزعهم، كما قال تعالى: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ).  قال ابن كثير رحمه الله "بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً"  أي : تأتيهم النار (بغتة) فجأة (فَتَبْهَتُهُمْ) تذعرهم فيستسلمون لها حائرين، لا يدرون ما يصنعون: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا) ليس لهم حيلة في ذلك (وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة " 5/343

فإذا جيء بجهنم يتذكر الإنسان فيتعظ ويتوب وهو الكافر (وأنى له الذكرى) قال الزجاج: يظهر التوبة ومن أين له التوبة ؟ وأنى له الذكرى أي ومن أين له الاتعاظ والانتفاع والتوبة وقد فرط فيها في الدنيا فقد فات أوانها، وذهب زمانها.

يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وعدتهم تسعة عشر ملكاً، كما قال تعالى: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) وقد فتن الكفار بهذا العدد، فقد ظنوا أنه يمكن التغلب على هذا العدد القليل، وغاب عنهم أن الواحد من هؤلاء يملك من القوة ما يواجه به البشر جميعاً، (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا).

قال ابن رجب: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته. وهؤلاء الملائكة هم الذين سماهم الله بخزنة جهنم في قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ).

ومالك خازن النار، كما قال سبحانه وتعالى : (وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ).

أما قعرها وعمقها فجهنم قعرها بعيد، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً فَقَالَ: "تَدْرُونَ مَا هَذَا؟" قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا".

 وقد خطب عتبة بن غزوان فقال: "إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً ". رواه مسلم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار" وفي لفظ :"يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب". وأخرج الإمام أحمد والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً". وكان عمر رضي الله عنه يقول: " أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد ، وإن قعرها بعيد ، وإن مقامعها من حديد".

والنار دركات متفاوتة في شدة حرها، وما أعده الله من العذاب لأهلها، فليست درجة واحدة، وقد قال تبارك وتعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). فالمنافقون لهم النصيب الأوفر من العذاب، لغلظ كفرهم، وتمكنهم من أذى المؤمنين.

فالنار دركات بعضها أسفل من بعض، وعذابها  متفاوت بعضه أشد من بعض، وعلى هذا فمنازل أهل النار متفاوتة بتفاوت دركاتها روى مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن النار: "مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى تُرْقُوَتِه" والحجزة مقعد الإزار.

وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أهون أهل النار عذاباً فقال: "إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه" . وصرح صلى الله عليه وسلم أنه أبو طالب فقال: "أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو متنعل بنعلين يغلي منهما دماغه" . رواه مسلم في صحيحه من حديث العباس رضي الله عنه .

وأما عصاة المؤمنين الذين يدخلون النار فيعذبون فيها على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها؛ لأن عذابهم فيها مؤقت، أما بقية أهل النار من الكفار والمنافقين فكما قال الله عز وجل فيهم: (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا).

للنار سبعة أبواب كما قال تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ).

قال ابن كثير في تفسير الآية: أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بحسب عمله .

وعندما يردُ الكفار النار تفتح أبوابها، ثم يدخلونها خالدين: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)، وبعد هذا الإقرار يقال لهم: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ، وهذه الأبواب تغلق على الكافرين والمجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ).

قال ابن عباس: مُّؤْصَدَةٌ مغلقة الأبواب، وقال تعالى في سورة الهمزة: (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ).

وقد تفتح أبواب النار وتغلق قبل يوم القيامة، فقد جاء في الخبر أن أبواب النار تغلق في شهر رمضان، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ومردة الجن".

وقود النار الأحجار والفجرة الكفار، كما قال الحق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُووا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، وقال: (فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). والمراد بالناس الذين توقد النار بهم الكفرة المشركون، وأما نوع الحجارة التي تكون للنار وقوداً فالله أعلم بحقيقتها، وقد ذهب بعض السلف إلى أن هذه الحجارة من كبريت، ونحن نجزم أن ما في الآخرة مغاير لما في الدنيا. ومما توقد به النار الآلهة التي كانت تعبد من دون الله : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) وحصبها: وقودها وحطبها، وقال الجوهري:  كل ما أوقدت به النار أو هيجتها فقد حصبتها، وقال أبو عبيدة:  كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، اتَّقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، اتَّقوا يومًا الوقوف فيه طويل، والحساب فيه ثقيل؛ واعلموا عباد الله أنه لن يدخل الجنَّة إلاَّ مَن يرجوها، ولن يسلم من النَّار إلا مَن يَخافُها، مَن خاف أدْلج ومَن أدْلج بلغ المنزِل، أَلا إنَّ سِلعة الله غالية، أَلا إنَّ سلعة الله الجنَّة.

قال الحسن عن النار : "واللهِ، ما أنذر العباد بشيءٍ أدْهى منها "

عباد الله، تِلكم النَّار وهذه صفة مجيئها وخزنتها وأبوابها ، فيا ترى من يطيق زفرة من زفراتها ومن يتحمل لحظة من أيام عذابها ومن يصبر أو يقوى على لقمة من زقُّومها وشربة من حميمها.

ألا أين العباد جميعًا عن هذه الدركات، وتلك المنازل المبْكيات؟! أليْس فينا متذكر ومتَّعظ، وهل فينا من مدَّكر قبل أن يحلَّ بنا هاذِم اللذَّات ومفرق الجماعات؟!

اللهُمَّ إنَّا نعوذ بك من النَّار وما قرَّب إليها من قول وعمل.

اللهُمَّ يا حيّ يا قيّوم، يا أحد يا صمَد، يا ذا الجلال والإكرام، أكرِمْنا في هذا اليوم المبارك بعتْق رقابِنا من النَّار.

اللهُمَّ إنَّا نعوذ بك من عذاب جهنَّم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحْيا والممات، ومن فِتْنة المسيح الدجال.

 سبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عمَّا يصفون.

ألقيت بتاريخ 24/6 /1440هـ - جامع موضي السديري الرياض

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply