الإيمان بالنار


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

اتقوا الله عباد الله حق تقاته: (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) .

عباد الله، إن من الإيمان باليوم الآخِر: الاعتقادُ الجازم والتصديقُ التامُّ بالجنَّة والنار ، وقد عدَّه بعض العلماء الأصل السابع من أصول الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ورُوح منه، والجنة حق، والنار حق أدخَله الله الجنة على ما كان من عمل". رواه أحمد.

قال الطحاوي في عقيديته السلفية المشهورة: "والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى: خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد".

فأهل السُّنَّة والجماعة يؤمنون بأنَّ الجنة والنار موجودتان مُعدَّتان لأهلهما ولا تفنيان، فالجنَّة رحمة الله تعالى ودارُ كرامةٍ أعدَّها لأوليائه المقرَّبين والأبرار، والنار دار عَذابه أعدَّها دار هَوانٍ لأعدائه المشركين والمنافِقين والكفَّار.

ونصوص الكتاب والسنة التي تدل على ذلك كثيرة منها قوله تعالى في شأن النار: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ، ويقول تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ﴾ ، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا﴾ ، وقال تعالى في آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ ، وقال تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم النار ورأى أصناف المعذبين فيها كما في حديث الخسوف: (... ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً) . وفي لفظ: "..ورأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء.." وكلها في الصحيحين.

فنحن نؤمن بها ونعتقد دوامهما وبقاءهما، وذلك بإبقاء الله لهما، وأنهما لا يفنيان؛ قال تعالى عن النار: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾.

وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة" رواه البخاري.

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت، ثم قرأ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

النار هي الدار التي أعدها الله تبارك وتعالى للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسحن فيه المجرمين، وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)، وقال: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)، وقال: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ). وكيف لا تكون النار كذلك؛ وفيها من العذاب والآلام والأحزان ما تعجز عن تسطيره أقلامنا، وعن وصفه ألسنتنا، وهي مع ذلك خالدة وأهلها فيها خالدون، ولذلك فإن القرآن أطال في ذم مقام أهل النار في النار : (إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) ، وقال تعالى: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ).

والنار لها أسماء ذكرها الله تعالى في كتابه فهي النار؛ قال تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، وجهنم ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، و لَظَى: قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى﴾ . وسَقَر ، قال تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ  لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ . والحُطَمة، قال تعالى: ﴿كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ﴾ . والجحيم ، قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ والسعير ، قال تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ والهاوية ، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ.

اللهم أجرنا من النار ، وأعذنا من عذاب النار ، ياعزيز ياغفار.

الخطبة الثانية :

الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا، وبعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واجذروا المعاصي فإن أجسامكم على النار لا تقوى. (فأنذرتكم نارا تلظى* لا يصلاها إلا الأشقى* الذي كذب وتولى* وسيجنبها الأتقى* الذي يؤتي ماله يتزكى).

 عباد الله، لقد سالت العبرات، وترادفت الزفرات؛ بما ذكر الله جل وعلا وبما ذكر رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ مِن أوصاف النار وأهوالها ومَن يعذب فيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لو رأيتم ما رأيتُ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا" ، قالوا: وما رأيتَ يا رسول الله؟ قال: "رأيتُ الجنةَ والنار" رواه مسلم. ففيها مِن أصناف العذاب ما لا يستطيع بشرٌ أن يتخيَّله، ومِن أنواع الذُّلِّ والهوان ما لا يستطيع أحدٌ أن يتحمَّلَه.

إن في ذكر النار في الكتاب والسنة والتخويف بها أيقاظ لضمير الغافلين، وحادٍ لتثبيت المؤمنين على هذا الدي ، وباعث على التقوى والعمل الصالح؛ فذكر ذلك والتذكير به ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد، فيستعد بالإيمان والعمل الصالح ليوم الوعيد. يقول: "الجنة أقربُ إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك".

فالجنة قريبة المنال، سهلة الطريق، والوصول إليها ليس بالأمر العسير على من يسره الله عليه، وكذا النار أعاذنا الله منها، قال ابن بطال رحمه الله: "فيه أن الطاعة موصلةٌ إلى الجنة، وأن المعصية مقربة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء؛ أهـ، وقال ابن الجوزي رحمه الله: "معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهلٌ بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية" أهـ، وقال ابن حجر رحمه الله: "فينبغي للمرء ألا يزهد في قليل من الخير أن يأتيَه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه؛ فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها؛ اهـ

جامع موضي السديري 17/ 6/ 1440هـ .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply