حول كتاب طبقات الشافعية الكبرى


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:  

كتاب طبقات الشافعية الكبرى لعبد الوهاب السبكي، كتاب حافل في أخباره ونوادره وفوائده وإحالاته، ونكته الفقهية وتنبيهاته الحديثية، ومروياته، وأشعاره، وحفظه للعديد من المراسلات، والمناظرات، وقد زاده حسنًا صنيع محققيه (الطناحي/الحلو) حيث يذكران في الحاشية ما فيه زيادة من الطبقات الوسطى، أو موضع الإحالة، وقد يتعقبان المؤلفَ في سهو ونحوه.

على ما في الكتاب من فرط تعصبٍ للأشعرية، والشافعية، وقد تكلم السبكي مرارًا في شيخه الذهبي، وأطال في التقعيد لمسائل تعود في غايتها إلى منع اعتماد كلام الذهبي في أشعري وصوفي وشافعي، وقد طبع كلام السبكي في هذا مستقلًا كأنه التحقيق وفصل الخطاب، على أن نقد السبكي للذهبي هيّن ما دام في المباحث العلمية، ولكنه احتد حتى استحل عرضه على السيف، فكان ميزان السبكي مفتقرًا إلى اتزان، وتسلسل بعض مقدماته مدخولًا لا أنه مقدمة بنفسه.

وهو يحط على غير الشافعي وخصوصًا الحنابلة بمقالة قالها شافعي المذهب، ومتى ترجم لأحدِ متقدمي الشافعية يغضي الطرف عما يشنع فيه على غيرهم، فتجده يرمي أبا إسماعيل الهروي الحنبلي بالتجسيم، لكنه في ترجمة عثمان بن سعيد الدارمي لا يتحدث فيه بكلمة، مع تسميته لكتابه الرد على الجهمية ورده على المريسي، وكلام الدارمي أشهر وأكثر من الهروي، ويتكلم في متأخري الشافعية لا متقدميهم، ولا يقال لعله لم يطلع على ما عنده كما رأيت في كلام بعض من اعتذر عنه، فما حجته في كلامه في ابن خزيمة مثلا؟

حيث تجده ينفي تهمة التشبيه عن ابن خزيمة، ويحتد في التشنيع على من رماه بذلك، ولا يذكر أن من رماه بذلك الرازي وموافقوه الذين يكيل لهم المدائح، بل يبالغ فيقول في ترجمة الرازي بأن علومه من لدن حكيم عليم، وفي هذا ما لا يخفى، وقد سمى الرازي كتاب التوحيد لابن خزيمة بكتاب الشرك، ومع ذلك فلما جاء السبكي إلى ترجمة ابن جهبل وهو متأخر، نقل رسالته في الرد على ابن تيمية، وفيها يعيب ابن جهبل على ابن خزيمة وكل هذا لم يعتمده السبكي في ابن خزيمة.

وقد عاب على الذهبي حديثه في الرازي في سياق كلامه عن أهل الحديث بحجة أنه ليس منهم، وزعم أنه لم يجر الذهبي إلى هذا إلا التعصب فكيف يذكر الرازي بين أهل الحديث وهو ليس منهم؟ في حين إنه ذكر في طبقات الشافعية من ليس بشافعي المذهب مثل الحكيم الترمذي وهو حنفي وكتبه شاهدة بهذا، ذكره في ترجمة مستقلّة وإنما ذكره لأنه صوفي، وبالغ في مدحه.

وتجده يمجد شافعيًا بقول ويحط على حنبلي لنفس القول، بل تجده يعيب على الذهبي ميله لبعض آراء الحنابلة، ويزعم أن الاشعري وأحمد في العقيدة متفقان، وهو قول دون إثباته خرط القتاد، وأقل ما يكدّره مسألة إثبات الكلام بحرف، حتى لم ينازع في ثبوتها عن أحمد أمثال ابن عقيل وابن الجوزي، ولابن عقيل رسالة مفردة في الرد على الأشعرية في المسألة، ونصوص أحمد في الدلالة على هذا منقولة معلومة، ينقلها الموافق والمخالف حتى نقل البيهقي في كتابه في الصفات عنه أن القرآن غير مخلوق بأي حال وعلى أي جهة، وأن من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وهذا بدعة عند الأشعرية، وقد حصلت بسببها صدامات مرارًا كان أشهرها فترة العز بن عبد السلام، وفي ترجمته للعز يترك السبكي لغة التلميح، ويبدأ بالتصريح فيجعل الأمر بين الحنابلة وأهل السنة كذا! ويقصد بهم الأشعرية، ولا يستعمل الصيغة المشهورة بين القوم باستثناء (فضلاء الحنبلية)! تخفيفًا للهجة، وتحييدًا لبعض الخصوم.

وهو حريص على الطعن بصحة أي قصة قالها فاضل في حق أشعري، أو بقصيدة أو كتاب يرى منها مخالفة لمعتقده، ولربما تأول الكلام في ذلك متى صح، وبعكس الأمر تجده لا يجد غضاضة في ذكر الأحلام والمنامات في فضل أشعري، فضلًا عن حكايات رجال الطرق الذين يعتقد فيهم من خوارق فيسردها دون تعقيب، بل إنه قد ينقل رواية موضوعة "اقتراها لا أنه افتراها" ولا يتعقبها وفيها حطٌ على الحنبلية وانتصار للشافعية، مثل ما ساقه دون زمام ولا خطام من مناظرة بين أحمد والشافعي في تارك الصلاة ووضعها لا يخفى على مثله، حاصلها أن الشافعي أفحم أحمد، في سياق لا يتسق لا مع أصول الشافعي ولا أحمد، ومع هذا فالكتاب غاية في الأهمية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply