فوائد من تحفة المودود بأحكام المولود


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:  

فالعلامة ابن القيم رحمه الله من العلماء الذين تنوعت مصنفاتهم ومؤلفاتهم, فمؤلفاته لم تقتصر على فن واحد, بل كان له إسهام في مختلف الفنون, ومن ذلك التصنيف في مجال "التربية" من خلال كتابه الموسوم بـ "تحفة المودود بأحكام المولود"  فقد تكلم عن الأحكام والأمور المتعلقة بالمولود, وسال قلمه بكثير من الفوائد في مجال تربية الأولاد, وفي غيرها, وقد اخترت شيئًا من تلك الفوائد, وجعلتها في ثلاثة أقسام:

فوائد تتعلق بالمولود

وفوائد تتعلق بتربية الأولاد

وفوائد متفرقة.

أسأل الله الكريم أن ينفع بها, ويبارك فيها.

 

فوائد تتعلق بالمولود

تسلية من رزق بالبنات:

قال يعقوب بن بختان: وُلِدَ لي سبعُ بنات, فكنتُ كلَّما وُلِدَ لي ابنة دخلت على أحمد بن حنبل فيقول لي: يا أبا يوسف ! الأنبياءُ آباءُ بناتٍ. فكان يُذهبُ قوله همِّي.

سرُّ التأذين في أذن المولود:

عن أبي رافع قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذَّن في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة [رواه أبو داود والترمذي, وقال:حديث صحيح] وسرُّ التأذين -والله أعلم- أن يكون أول ما يقرعُ سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الربِّ وعظمته, والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام, فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا, كما يُلقنُ كلمة التوحيد عند خروجه منها.

وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر, مع ما في ذلك من فائدة أخرى, وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان.

وفيه معنى آخر: وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان, كما كانت فطرة الله التي فُطِرَ عليها سابقة على تغيير الشيطان لها, ونقله عنها, ولغير ذلك من الحِكَمِ. والله أعلم.

تسمية المولود بأحسن الأسماء, فإن للأسماء تأثير في مسمياتها:

قال البيهقي في سننه: باب تسمية المولود حين يولد.

 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تُدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم) رواه أبو داود بإسناد حسن

وبين الاسمِ والمُسمى علاقة ورابطة تُناسبه وقلما يتخلف ذلك, فالألفاظ قوالب المعاني, والأسماء قوالب المسميات.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أحبَّ أسمائكم إلى الله عز وجل: عبدالله, وعبدالرحمن) رواه مسلم في صحيحه.

وقُبحُ الاسم عنوانُ قُبح المسمى, قال أبو داود في السنن: وغيَّر النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص, وعزيز, وعَتَلَهَ, وشيطانٍ, والحَكَم, وغُراب, وشهاب....

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية, وقال: (أنت جميلة)

وهذا باب عجيب من أبواب الدِّين, وهو العدول عن الاسم الذي تستقبحه العُقُولُ وتنفرُ منه النفوس إلى الاسم الذي هو أحسن منه, والنفوس إليه أميلُ.

ومن تأمل السنة وجد معاني الأسماء مرتبطة بها حتى كأن معانيها مأخوذة منها وكأن الأسماء مشتقة من معانيها فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم (أسلمُ سالمها الله, وغفار غفر الله لها, وعصيّةُ عصتِ الله) وقوله لما جاء سهيل بن عمرو قال:(سهُل أمركم)

وإذا أردت أن تعرف تأثير الأسماء في مسمياتها فتأمل حديث سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده قال: أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما اسمك؟)   قلتُ: حَزن, فقال: أنت سهل, قال: لا أغيِّر اسمًا سمَّانيهُ أبي. قال ابن المسيب: فما زالت تلك الحُزُونة فينا بعد, رواه البخاري في صحيحه, والحزونةُ: الغلظة.

سُنِّية العقيقة, وفوائدها, وأنها أفضل من التَّصُّق بثمنها ولو زاد

قال الخلال: "باب ما يستحب من العقيقة وفضلها على الصدقة" أخبرنا سليمان بن الأشعث: قال: سُئل أبو عبدالله –وأنا أسمع– عن العقيقة: أحبُّ إليك, أو تدفعُ ثمنها في المساكين؟ قال: العقيقة.

قال صالح: قلت لأبي: يولد للرجل وليس عنده ما يعقُّ, أحبُّ إليك أن يستقرض ويعُقَّ عنه, أم يؤخِّر ذلك حتى يُوسر؟

فقال: أشدُّ ما سمعت في العقيقة حديث الحسن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلُّ غلام رهينة بعقيقته) وإني لأرجو إن استقرض أن يُعجل الله له الخلف, لأنه أحيا سُنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به.

وهذا لأنها سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين, وفيها سر بديع مورث عن فداء إسماعيل بالكبش الذي ذُبح عنه وفداه الله به, فصار سنة في أولاده بعده: أن يفدي أحدهم عند ولادته بذبحٍ يُذبحُ عنه.

ولا يستنكر أن يكون هذا حرزًا له من ضرر الشيطان بعد ولادته, كما كان ذكر اسم الله عند وضعه في الرحم حرزًا له من ضرر الشيطان.

 

فوائد في تربية الأبناء

تأديب الأولاد وتعليمهم:

قال الله تعالى: ]يا أيها الذين أمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناسُ والحجارة [ [التحريم:6] قال علي رضي الله عنه: علَّموهم وأدبوهُم.

وقال الحسن: مُرُوهُم بطاعة الله وعلموهم الخير.

وفي المسند وسنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبعٍ, واضربوهم عليها لعشرٍ, وفرقوا بينهم في المضاجع)

ففي هذا الحديث ثلاثة آداب: أمرهم بها, وضربهم عليها لعشر, والتفريق بينهم في المضاجع.

وقال عبدالله بن عمر: أدَّب ابنك, فإنك مسؤول عنه, ماذا أدبتهً؟ وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن بِرّك وطواعيته لك.

فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه, وتركه سدى, فقد أساء إليه غاية الإساءة.

وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم, وترك تعليمهم فرائض الدين وسننهُ, فأضاعوهم صغارًا, فلم ينتفعوا بأنفسهم, ولم ينفعوا آباءهم كبارًا, كما عاتب بعضهم ولده على العقوق, فقال: يا أبَتِ إنّك عققتني صغيرًا, فعققتك كبيرًا, وأضعتني وليدًا, فأضعتك شيخًا كبيرًا.

فمما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج: الاعتناء بأمر خُلُقه, فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره... فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك.

لذلك يجب أن يجنب الصبيُّ إذا عقل: مجالس اللهو والباطل, والغناء, وسماع الفحش, والبدع, ومنطق السُّوء, فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر.

وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره غاية التجنب, فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة, ونشأ بأن يأخذ لا بأن يُعطي, ويعوَّده البذل والإعطاء.

ويجنبه الكذب, والخيانة أعظم مما يجنبه السم الناقع, فإنه متى سهَّل له سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة وحرمه كلَّ خير. 

ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة, بل يأخذ بأضدادها,... فإن للكسل والبطالة عواقب سُوءٍ, ومغبة ندمٍ, وللجدِّ والتعبِ عواقب حميدة, إما في الدنيا وإما في العقبى, وإما فيهما, ويجنبه مضار الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب, فإن تمكينه من أسبابها والفسح له فيها يفسده فسادًا يعزُّ عليه بعده صلاحه.

والحذر كلَّ الحذر من تمكينه من تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره, أو عشرة من يخشى فساده أو كلامه له.... فإن ذلك الهلاك كله.

فما أفسد الأبناء مثل تغفل الآباء وإهمالهم...وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه, وإعانته على شهواته, ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه, وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه, ففاته انتفاعه بولده, وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة, وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء.

العدل بينهم في العطاء والمنع:

وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير, أن أباه أتى به النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلَّ ولدك نحلت مثل هذا؟) فقال:لا, فقال: (أرجعه)

وفي رواية لمسلم فقال: (أفعلت هذا بولدك كلِّهم؟) قال: لا, قال: (اتقوا الله واعدلوا في أولادكم) قال: فرجع أبي في تلك الصدقة.

وكان السلف يستحبون أن يعدلوا بين الأولاد في القُبلة.

ملاحظة ما هم مهيئون له من أعمال واستثمار ذلك:

ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها, فيعلم أنه مخلوق له, فلا يحمله على غير ما كان مأذونًا فيه شرعًا, فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه, وفاته ما هو مهيأ له, فإذا رآه حسن الفهم, صحيح الإدراك, جيد الحفظ واعيًا, فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم, فلينقشه في لوح قلبه مادام خاليًا, فإنه يتمكن فيه ويستقر,... وإن رآه بخلاف بذلك...وهو مستعد للفروسية وأسبابها... مكنه من... التمرن عليها,... وإن رآه بخلاف ذلك.. ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع, مستعدًا لها, قابلًا لها, وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها.

هذا كلُّه بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه, فإن ذلك ميسَّر على كلِّ أحد.     

عدم تمكينهم من كثرة الطعام والشراب:

من سوء التدبير للأطفال: أن يمكنوا من الامتلاء من الطعام وكثرة الأكل والشرب, ومن أنفع التدبير لهم أن يعطوا دون شبعهم ليجود هضمهم وتعتدل أخلاطهم, وتقل الفضول في أبدانهم, وتصحَّ أجسادهم, وتقلَّ أمراضهم لقلة الفضلات في المواد الغذائية

 

فوائد متفرقة

القزع, حكمه, وأنواعه:

القزع: حلق بعض رأس الصبي وتركُ بعضه, في الصحيحين..عن ابن عمر, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع.

والقزع أربعة أنواع:

أحدها: أن يحلق من رأسه مواضع من هاهنا وها هنا, مأخوذ من تقزُّع السحاب وهو تقطُّعه.

الثاني: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه. 

الثالث: أن يحلق جوانبه ويترك وسطه.

الرابع: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره, وهذا كلُّه من القزع. والله أعلم.

القزع ظلم للرأس:

قال شيخنا [يقصد شسخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله]: وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل, فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه, فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه, لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيًا وبعضه عاريًا.

الشريعة فاضلت بين الذكر والأنثى:

وهذه قاعدة الشريعة, فإن الله سبحانه فاضل بين الذكر والأنثى, وجعل الأنثى على النصف من الذَّكر في المواريث, والدِّيات, والشَّهادات, والعتق, والعقيقة.

حفظ اللسان فالبلاء موكل بالقول:

من البلاء الحاصل بالقول: قول الشيخ البائس الذي عاده النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عليه حمى فقال: ( لا بأس, طهور إن شاء الله ) فقال: بل حمى تفور على شيخ كبير, تُزيرهُ القبور, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فنعم, إذًا)

وقد رأينا من هذا عبرًا فينًا وفي غيرنا, والذي رأيناه كقطرة من بحر, قال الشاعر:

شَفَّ المُؤمل يوم النقلة  النظرُ           ليت المُؤملَ لم يُخلق لهُ البصرُ

فلم يلبث أن عمي, فحفظ المنطق وتخير الأسماء من توفيق الله للعبد.

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه, يتمثل بهذا البيت:

احذر لسانك أن يقول فتبتلى         إن البلاء  مُـوكل بالمنطـق

أخذ ما جاوز الحد من الشعر وما طال من الأظفار فإن الشيطان يختبئ تحت ذلك:

أيُّ زينة أحسن من أخذ ما طال وجاوز الحدَّ من...شعر العانة, وشعر الإبط, وشعر الشارب, وما طال من الظفر, فإن الشيطان يختبئ تحت ذلك كلَّه ويألفه ويقطن فيه

ما جاءت به الرسل مع العقل ثلاثة أقسام:

ما جاءت به الرسل مع العقل ثلاثة أقسام لا رابع لها ألبته:

قسم شهد به العقل والفطرة.

وقسم يشهد بجملته ولا يهتدي لتفصيله.

وقسم ليس في العقل قوة إدراكه.

وأما القسم الرابع وهو ما يحيله العقل ويشهد ببطلانه, فالرسل بريئون منه.

النعيم والعذاب في البرزخ:

ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله, ويُعذب الفاجر فيه على حسب أعماله.

ويختصُّ كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو, فتُقرض شفاهُ المغتابين الذين يُمزقون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بمقاريض من نار, وتُسجرُ بطون أكلةِ أموال اليتامى بالنار, ويُلقم أكلة الربا بالحجارة, ويسبحون في أنهار الدم كما سبحوا في الكسب الخبيث, وتُرضُّ رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم,ويُشقُّ شدق الكذاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد إلى قفاه, ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه كما شقت كذبته النواحي,وتُعلق النساء الزواني بثُديهنَّ وتحبس الزناة والزواني في التنور المحمى عليه, فيعذب محل المعصية منهم وهو الأسافل.

وتسلط الهموم والغُمُوم والأحزان والآلام النفسانية على النفوس البطالة التي كانت مشغولة باللهو واللعب والبطالة, فتصنع الآلام في نفوسهم كما يصنع الهوام والديدان في لحومهم, حتى يأذن الله سبحانه بانقضاء أجل العالم وطي الدنيا.

الخصومة بين الروح والجسد:

ولا تزال الخصومة بين يدي الله سبحانه حتى يختصم الروح والجسد, فيقول الجسد: إنما كنت ميتًا لا أعقل ولا أسمع ولا أُبصر, وأنتِ كنتِ السمعية المبصرة العاقلة, وكنت تصرفيني حيث أردت فتقول الروح وأنت الذي فعلت وباشرت المعصية

فيُرسل الله سبحانه إليهما ملكًا يحكم بينهما فيقول: مثلكما مثل بصير مقعد وأعمى صحيح, دخلا بستانًا, فقال المقعد: أنا أرى الثمار ولا أستطيع أن أقوم إليها, وقال الأعمى: أنا أستطيع القيام ولكن لا أرى شيئًا, فقال له المقعد: احملني حتى أصل إلى ذلك, ففعلا, فعلى من تكون العقوبة ؟ فيقولان: عليهما, فيقول: كذلك أنتما.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply