بين التمكين والابتلاء


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

سأل رجلٌ الشافعي فقال: يا أبا عبدالله! أيما أفضل للرجل يمكَّن أو يبتلى؟ فقال الشافعي لا يمكَّن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتَّةَ .

وهذا أصل عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان مدني الطبع، لابد له من أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات و تصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم .

ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئًا كثيرًا، كقوم يريدون الفواحش والظلم، ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك، فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ﴾.

وهم في مكان مشترك، کدار جامعة أو خان أو قيسارية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم، وهم لا يتمكنون مما يريدونه إلَّا بموافقة أولئك، أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت، فإن وافقوهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء، ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداء، كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل، إما في الخبر، وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم، فإن لم يجبهم آذوه وعَادَوه، وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه، وإلا عذب بغيرهم .

فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية، ويُروى موقوفا ومرفوعا :«من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس. وفي لفظ: رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا  وفي لفظ: عاد حامده من الناس ذاما »

وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم. فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم، ثمَّ تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم، مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها و عبّادها وتُجَّارها وُلاتها .

وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطان المخالفة، کالمكره على الكفر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا أنه لابد من الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاص لأحد مما يؤذيه البتة .

ولهذا ذكر الله تعالی في غير موضع أنه لابد أن يبتلي الناس ،والابتلاء يكون بالسراء والضراء، ولابد أن يبتلى الإنسان بما يسره ويسوءه، فهو محتاج إلى أن يكون صابرًا شكورًا .

ابن تيمية، جامع المسائل (المجموعة الثالثة) | ( 255، 256).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply