بين العاطفة والتهور


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

من نصوص الوحي التي تستوقفني كثيرا فأعيد قراءتها متأملا= قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إنَّ فيك خصلتين يُحبُّهما الله: الحلمُ والأناة".

يكفيك أن تقلّب النظرَ في المواقف التي مرّت عليك لترى محاسن الحلم والأناة، ومساوئَ الطيشِ والعجلة؛ وكفى بهذه المواقف دلالةً وبياناً!

أقول: من الأمور التي باتت تقلق كثيرا من العقلاء سمةُ التهور واتخاذِ القرارات الحاسمة، والمفاصلاتِ القائمةِ على العاطفة!

فشتْ هذه الظاهرة فشوا بينا في بعض أوساط طلبة العلم، وتراه يتقلب في لهبها أثناء مسيرته العلمية.

وإنما خصصتُ طلبة العلم بهذا الكلام دون غيرهم مع وجودها في غيرهم= لقبحهِا فيهم؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا: "تعلموا للعلم الوقار".

 وهذا الأثر لا يصح مرفوعا، وقد ضعفه جماعة من الحفاظ؛ إلا أنّ معناه صحيح، وهذا ظاهر.

ودعني أصوّر لك مثالاً يُقرّب صورةَ مَن كانت هذه صفته:

هل رأيتَ راكبَ القاربِ الذي لم يعتد على ركوبِه؟

هل رأيتَ هيئتَه إذا اتكأ على جهةٍ دون الجلوس في وسط القارب؟

هل رأيتَ اضطرابَه إذا قفز للجهة الأخرى خشيةَ انقلاب القارب؟

فإذا مالَ القاربُ للجهةِ الأخرى ألقى بثقلهِ على الجهةِ المقابلة...وهكذا حتى ينقلبَ على أمّ رأسه...

ترى طالبَ العلم يُقلّد مَن يسلك طرائق المتأخرين في التخريج والحكمِ، ويُقدّمها على أحكام المتقدمين، ولكن لا يلبث بعد اقتناعه بهذا المسلك وقبل التوغل في دراسته وفهمه على وجهه بله الإنتاج فيه بالتدريس أو التأليف= حتى يلهج لسانُه بذمّ أصحابِ المسلك الآخر، ويُصبح ويُمسي على ازدرائهم...

ولو كان هذا الطالب محققا في طريقته، ويُعرّج أحيانا على مواضع الانتقاد= لكان نقدُه مقبولا، لكنه أبى إلا أن يجمع بين الجهل وسوء الأدب مع شغل الآخرين بترهاته وسفهه!!

وقل مثل ذلك في مَن يُقدّم مسالك المتقدمين وطرائقهم على المتأخرين سواء بسواء؛ فينتهز كلَّ فرصةٍ للوقيعة بالألباني ومدرسته بمناسبة وبغير مناسبة!

وترى هذا في مَن يرى التمذهبَ بأحد المذاهب الأربعة؛ فما يفتؤ يذكر المقلدين للمعاصرين باللمز والهمز والسخرية وتتبع سقطاتهم!

وترى المقلدَ للمعاصرين أو مدّعيَ الاجتهاد يسبّح بحمد عثرات المتمذهبين، راميا لهم سهمَ الاتهام والتنقص!

وتراه ممجداً لتقي الدين ابن تيمية تمجيدا لا يسلم له في نفسه حتى يقع في تقي الدين السبكي، فإذا عرف منزلة تقي الدين السبكي= انقلب ساخطا على تقي الدين ابن تيمية!

وتراه منشغلا بالحطّ على الجماعة الفلانية دون إنتاجٍ في حقله، فإذا انكفأ قاربُه= راح يصرخ بشتم جماعته التي كان متكئاً عليها...وهكذا دواليك..

أخي طالب العلم:

هل كُتِب عليك ألا تتخذ منهجا وموقفا حتى تصب جام غضبك وسخطك على المخالف؟!

من قال لك هذا؟!

أتريد أن أبرهَنَ لك على الانفكاك بين الأمرين؟!

خذ مثالاً لمعاصرين:

فمن أشهر حاملي لواء مدرسة المتقدمين في دراسة الأسانيد والمتون= الشيخ عبد الله السعد، والشيخ طارق عوض الله، والشيخ إبراهيم اللاحم...حفظهم الله..

لن تستطيع الوقوفَ على ذمٍّ أو ازدراءٍ منهم لمدرسة المعاصرين إلا ما قد يُلتقط بالمنقاش من إشارةٍ خفيةٍ بعد تحرير طويل لمسألة علمية، وعطاءٍ بجود في التأصيل والتفريع...

وقلما تجد عالماً أو طالبَ علمٍ متين يقع في هذا الاضطراب...لكن ما نراه بين الشباب ضريبة غياب القدوات...والله المستعان.

والخلاصة:

نصيحتي لنفسي ولك: لا تغرق في حميم الجدال والمناكافات، ولا تصطلي بلهب التعصب وحمية الجاهلية، ولا تُذيب زهرة أيامك وعمرك بشمس المقارنات والمحاكمات.

كن زارعا أو قاطفا، ولا تكن صارخا أو متذمرا.

جمع الله شمل هذه الأمة على الخير والتقوى، وألف بين قلوبهم.

اللهم ارحم أمة حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم...اللهم آمين

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply