قاعدة في حفظ المصحف


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

فإن جهل كثير من شباب المسلمين ببعض بديهيات الشريعة

ومن ذلك ما أدخله بعض المشككين عليهم في الخلط بين الحرف (القراءة القديمة) والقراءات الحالية

فاعلم رحمك الله أن القرآن أنزل على سبعة أحرف بعدد لهجات العرب وعلة ذلك التيسير على الناس وهذا وجه من أوجه إعجاز القرآن فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قرشياً لا يحسن إلا لسان قومه ولكي يتم التحدي للعرب كافة ومن فائدة القراءات أنه يكون في هذه القراءة فائدة وفي القراءة الأخرى فائدة أخرى بحسب تغير الياء والتاء أو الفتحة والضمة

غير أن عثمان بن عفان رضي الله عنه بعدما كثر القراء في العرب وضعفت الأمية والحمد لله رأى أن يجمع الناس على حرف واحد لئلا يكثر اختلافهم بسبب جهل كل واحد منهم بقراءة الآخر فيظنها غلطاً

والقراءات الموجودة الآن حفص عن عاصم وورش عن نافع ونظرائها كلها طرق أداء للحرف العثماني

ولا تختلف الكلمات فيها وإنما تختلف المدود والهمز والإمالة ورسم الكلمة واحد

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن 594 - حدثنا هشام بن عمار، عن أيوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث الذماري، عن عبد الله بن عامر اليحصبي، قال هشام: وحدثناه سويد بن عبد العزيز، أيضا، عن الحسن بن عمران، عن عطية بن قيس، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، أن هذه الحروف في مصاحف الشام، وقد دخل حديث أحدهما في حديث الآخر، وهي ثمان وعشرون حرفا في مصاحف أهل الشام: في سورة البقرة: (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) بغير واو. وفي سورة آل عمران: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم) بغير واو . وفيها أيضا: (جاءتهم رسلهم بالبينات (1) وبالزبر وبالكتاب) كلهن بالباء. وفي النساء: (ما فعلوه إلا قليلا منهم) بالنصب. وفي المائدة: (يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا) بغير واو. وفيها أيضا: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم) بدالين. وفي الأنعام: (ولدار الآخرة خير) بلام واحدة . وفيها أيضا: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) بنصب الأولاد وخفض الشركاء، ويتأولونه قتل شركائهم أولادهم. وفي الأعراف: (قليلا ما تتذكرون) بتاءين. وفيها أيضا: (الحمد لله الذي هدانا لهذا ما كنا لنهتدي) بغير واو. وفيها أيضا: في قصة صالح: (قال الملأ الذين استكبروا) بغير واو. وفيها أيضا: في قصة شعيب: (وقال الملأ) بالواو . وفيها أيضا: (وإذا أنجاكم من آل فرعون) بغير نون. وفي براءة: (الذين اتخذوا مسجدا ضرارا ) بغير واو. وفي يونس: (هو الذي ينشركم في البر والبحر) بالنون والشين. وفيها: (إن الذين حقت عليهم كلمات ربك) على الجماع . وفي بني إسرائيل: (قال سبحان ربي هل كنت) بالألف على الخبر. وفي الكهف: (خيرا منهما منقلبا) على اثنين. وفي سورة المؤمنين: (سيقولون لله لله لله) ثلاثتهن بغير ألف. وفي الشعراء: (فتوكل على العزيز الرحيم) بالفاء. وفي النمل: (إننا لمخرجون) على نونين بغير استفهام. وفي المؤمن: (كانوا هم أشد منكم قوة) بالكاف. وفيها أيضا: (وأن يظهر في الأرض الفساد) بغير ألف. وفي عسق: (ما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم) بغير فاء. وفي الرحمن: (والحب ذا العصف والريحان) بالنصب. وفيها أيضا: (تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام) بالرفع. وفي الحديد: (إن الله الغني الحميد) بغير هو وفي الشمس وضحاها (فلا يخاف عقباها) بالفاء. قال أبو عبيد: قد ذكرنا ما خالفت فيه مصاحف أهل الحجاز وأهل الشام مصاحف أهل العراق ، فأما العراق نفسها فلم تختلف مصاحفها فيما بينها إلا خمسة أحرف بين مصاحف الكوفة والبصرة . كتب الكوفيون في سورة الأنعام: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين) بغير تاء. وفي سورة الأنبياء: (قال ربي يعلم القول) بالألف على الخبر. وفي سورة المؤمنين: (قل كم لبثتم في الأرض) على الأمر بغير ألف، وكذلك التي تليها: (قل إن لبثتم إلا قليلا) مثل الأولى. وفي الأحقاف: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا). وكتبها البصريون: لئن أنجيتنا (2) بالتاء. وكتبوا: (قل ربي يعلم القول) على الأمر، بغير ألف. وكتبوا: قال كم لبثتم في الأرض (3) بالألف على الخبر. وكذلك التي تليها : قال إن لبثتم (4) مثل الأولى. وكتبوا: (بوالديه حسنا) بغير ألف . قال أبو عبيد: هذه الحروف التي اختلفت في مصاحف الأمصار، ليست كتلك الزوائد التي ذكرناها في البابين الأولين؛ لأن هذه مثبتة بين اللوحين، وهي كلها منسوخة من الإمام الذي كتبه عثمان رضي الله عنه، ثم بعث إلى كل أفق مما نسخ بمصحف، ومع هذا إنها لم تختلف في كلمة تامة، ولا في شطرها "تأمل قوله لم تختلف في كلمة واحدة ولا شطرها يعني المصاحف العثمانية وهي مصاحف أرسلها عثمان إلى كل الأمصار وكل كتب التفسير والفقه والحديث تنقل الآيات منها ولا تختلف في ذلك وكل آية منها مروي في تفسيرها عشرات الأخبار

تأمل قوله (ومع هذا إنها لم تختلف في كلمة تامة ، ولا في شطرها)

فهذا حال القراءات الحالية والاختلافات المذكورة في الكتب إنما تتحدث عن القراءات التي لم يعد يقرأ الناس بها بعد المصحف العثماني على أنها لا زالت موجودة في الكتب ويحتج بها فقهياً إن كان فيها فائدة زائدة ولا يوجد فيها بحمد الله اختلاف تضاد مع المصحف العثماني

قال أبو عبيد في فضائل القرآن 617 - حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: إني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم فإنما هو كقول أحدكم هلم، وتعالى.

وهذا صحيح عن ابن مسعود

ثم إن الاختلاف محصور في آيات معينة بسطها أبو عبيد في فضائل القرآن والاختلاف لا يكون في آية كاملة بل في كلمة ضمن آية مما يؤكد على صحة أصل الآية وكله اختلاف تنوع

فإن قيل : فلماذا اختلفوا في عدد الآيات؟

فيقال: هذا الاختلاف راجع للمصاحف القديمة والاختلاف في عد الآيات بعد اتفاقهم أنها 6000 آلاف آية فما فوق واقع بسبب تحديد مكان الفاصلة

فمنهم من عد البسملة آية في مقدمة كل سورة مثبتة في المصحف وذلك موجود في قراءته فزاد عدده على عدد غيره

جاء في الإتقان للسيوطي: "الْبَسْمَلَةُ نَزَلَتْ مَعَ السُّورَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ مَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ نَزَلَتْ فِيهِ عَدَّهَا وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِمَ يَعُدَّهَا.

وَعَدَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ الم حَيْثُ وَقَعَ آية وكذا المص وطه وكهيعص وطسم ويس وحم وعدوا حمعسق آيَتَيْنِ وَمَنْ عَدَاهُمْ لَمْ يَعُدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَدُّ الر حَيْثُ وَقَعَ آيَةً وَكَذَا المر وطس وص وق ون. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَ بِالْأَثَرِ وَاتِّبَاعِ الْمَنْقُولِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ لَا قِيَاسَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لم يعدوا ص ون وق لِأَنَّهَا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَلَا طس لِأَنَّهَا خَالَفَتْ أَخَوَيْهَا بِحَذْفِ الْمِيمِ وَلِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْمُفْرَدَ كَقَابِيلَ ويس وَإِنْ كَانَتْ بِهَذَا الْوَزْنِ لَكِنَّ أَوَّلَهَا يَاءٌ فَأَشْبَهَتِ الْجَمْعَ إِذْ لَيْسَ لَنَا مُفْرَدٌ أَوَّلُهُ يَاءٌ. وَلَمْ يَعُدُّوا الر بِخِلَافِ الم لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْفَوَاصِلِ مِنْ الر وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى عد {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} آيَةً لِمُشَاكَلَتِهِ الْفَوَاصِلَ بَعْدَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} .

قَالَ الْمَوْصِلِيُّ: وَعَدُّوا قَوْلَهُ: {ثُمَّ نَظَرَ} آيَةً وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَقْصَرَ مِنْهَا أَمَّا مِثْلُهَا فعم وَالْفَجْرُ وَالضُّحَى

تَذْنِيبٌ

نَظَمَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ الْغَالِي أُرْجُوزَةً فِي الْقَرَائِنِ وَالْأَخَوَاتِ ضَمَّنَهَا السُّوَرَ الَّتِي اتَّفَقَتْ فِي عِدَّةِ الْآيِ كَالْفَاتِحَةِ وَالْمَاعُونِ وَكَالرَّحْمَنِ وَالْأَنْفَالِ وَكَيُوسُفَ وَالْكَهْفِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ مما تقدم."

واعلم رحمك الله أن حفظ القرآن بصورته التي نزلت حقيقة قطعية لعدة اعتبارات

الأولى: أن الأسانيد إليه متواترة

الثانية: أنه لا يوجد آية إلا وروي في تفسيرها عن الصحابة والتابعين وأتباعهم آثار كثيرة

الثالثة: أنه مما تعاهد الناس حفظه فكثيرون يحفظونه بحروفه والحافظ له مكانة في الأمة لذا هم كثر جداً

الرابعة: أن الناس يتلونه في الصلوات ويتعبدون بقراءته ليل نهار وفي رمضان تعقد له الختمات

الخامسة: أنه دليل عند الفقهاء والمفسرين واللغويين وغيرهم ممن ملأت تصانيفهم الدنيا والاستشهاد بالنص القرآني كان حاضراً دائماً ولم يأتِ أحد بآية ثم يقول (اختلفوا في كونها من المصحف)

السادسة: أن علماء المسلمين على مدى أربعة عشر قرناً يرددون الآيات نفسها بالترتيب نفسه في السور نفسها دون أدنى اختلال أو اختلاف مع كل ما مر بالمسلمين من نكسات واختلافات وضعف فهذا يوحي أن حفظه في زمن السلف زمن القوة وقوة الإيمان أولى وأولى

الثامنة: أن حتى الطاعنين به القائلين بتحريفه من الرافضة وأضرابهم في كتبهم الفقهية والحديثية والتفسيرية يعتمدون المصحف الموجود ويعولون على آياته في الاستدلال

التاسعة: أن اختلاف الحروف مع وجوده إلا أنه يسير جداً وفي كلمات معينة ضمن آيات كاملة وهو اختلاف تنوع مما يدل على شدة حفظ المصحف

العاشرة: أن الأحاديث النبوية وحفظها دون حفظ القرآن لا يكاد أحد يدرس نقل الأحاديث بشكل دقيق حتى يمتليء يقيناً بأن الأحاديث حفظت بشكل دقيق فكيف بالقرآن

وسأكتفي بنقولات يسيرة استفدتها حديثاً عن بعض الغربيين الذين يعتبرون مقدسين عند كثير من المنتسبين للإسلام

ويقول الكاتب (برنارد لويس) في كتابه (الإسلام في التاريخ ص 104- 105 عام 1993م) :

" في وقت مبكر: أدرك علماء الإسلام خطر الشهادات الكاذبة والمذاهب الفاسدة فوضعوا علما ًلانتقاد الأحاديث والتراث وهو (علم الحديث) كما كان يُدعى .. وهو يختلف لاعتبارات كثيرة عن علم النقد التاريخي الحديث !! ففي حين أثبتت الدراسات الحديثة اختلافا ًدائما ًفي تقييم صحة ودقة السرد القديمة (أي في غير الإسلام) : نجد أن الفحص الدقيق له (أي لعلم الحديث) باعتنائه بسلاسل السند والنقل وجمعها وحفظها الدقيق من المتغيرات في السرد المنقول تعطي التأريخ العربي في القرون الوسطى احترافا ًوتطورا ًلم يسبق له مثيل في العصور القديمة !! ودون حتى أن نجد له مثيلا ًفي الغرب في عصوره الوسطى في ذلك الوقت !! والذي بمقارنته (أي علم الحديث عند المسلمين) بالتأريخ المسيحي اللاتيني : يبدو الأخير فقيرا وهزيلا!! بل وحتى طرق التأريخ الأكثر تقدما ًوتعقيدا ًفي العالم المسيحي اليوناني : فلا تزال أقل من المؤلفات التاريخية للإسلام في مجموع تنوع وحجم وعمق التحليل " !!

وأما الكاتب (روبسون) ففي كتابه (الإسناد في التراث الإسلامي ص 26) فيقول :

"أن بعض المستشرقين فطنوا إلى أن ما يُروى عن كبار الصحابة من الحديث: هو أقل بكثير مما يروى عن صغارهم، وقد رأى أن ذلك يحمل على الاعتقاد بصحة ما نقله المحدثون أكثر مما نتصور – أي مما يتصوره المستشرقون – إذ لو اختلق المحدثون الأسانيد : لكان بإمكانهم جعلها تعود إلى كبار الصحابة"

وهذه نقطة دقيقة وذكية

النقطة قبل الأخيرة: أن المسلمين في خلافاتهم السياسية والعقدية ما استطاع أحد منهم أن يثبت على خصمه الإدخال في المصحف أو حتى يوجه تهمة معتبرة في هذا بحيث تسقط الخصم تماماً

النقطة الأخيرة: أن كتباً دون القرآن لا يمكن لأحد أن يزيد فيها شيئاً على غير سمتها وهذا أمر مفروغ منه

قال ابن الوزير في العواصم: " أن أهلَ الكذب والتحريف قد يئسُوا من الكذب في هذه الكتب المسموعة، فكما أنه لا يُمْكِنُ أحداً أن يُدْخِلَ في " اللمع " مسألة في جواز المسح على الخُفين ويقول: إنه مذهب الهادي -عليه السلام- ويخفي ذلك على حُفَّاظ مذهبه -عليه السلام- فكذلك لا يُمْكِنُ أحداً أن يزيدَ في صحيح البخاري حديثَ " القُرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق " (1)، ولا حديثَ " أبو بكر خليفتي على أمتي " (2) ونحو ذلك من الموضوعات"

حتى أن كل من روى عن مالك حديثاً خارج الموطأ فقد شهد على نفسه بالوهم أو الكذب

قال الذهبي في ميزان الاعتدال :" 5092 - عبد العزيز بن الحارث، أبو الحسن التميمي الحنبلي، من رؤساء الحنابلة وأكابر البغاددة، إلا أنه آذى نفسه، ووضع حديثاً أو حديثين في مسند الامام أحمد.

قال ابن رزقويه الحافظ: كتبوا عليه محضرا بما فعل.

كتب فيه الدارقطني وغيره.

نسأل الله السلامة."

فإذا كان كتاب أحمد الضخم الذي يحوي عشرات آلاف الأحاديث لم يستطع هذا الرجل أن يدخل فيه حديثين فقط دون أن يكشف فما بالك بما هو أسمى وأعلى من مسند أحمد وهو  محفوظ كلمة كلمة ميسر للحفظ في دفتي مصحف.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply