لماذا توجّهت همة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى نقض المنطق


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

لقد كرّس شيخ الإسلام رحمه الله معظم جهده، منذ أن تبين له أساس الخلل والضلال، على بيان الأصول الإيمانية وتنقيتها، والرد على من خالف فيها، ونقد ونقض مصادر ومنابع الخلل التي أثرت سلبًا على أصول الدين.

وقد دُعي شيخ الإسلام ابن تيمية إلى التأليف في بعض العلوم في الفروع، لكنه أبدى وجهة نظره حول الأولويات التي يجب أن تنصرف لها همته، وهي أصول الدين.

فقد سأله عن ذلك تلميذه الإمام الحافظ سراج الدين عمر بن علي البزّار، فأجابه ابن تيمية بما نقله عنه البزّار فيما يلي:

ولقد أكثر، رضي الله عنه، التصنيف في الأصول فضلًا عن غيره من بقية العلوم. فسألته عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نصٍّ في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلّد المسلم فيها أحد العلماء المقلّدين جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقّن خطأه. وأمّا الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدريّة والنصيرية والجهمية والحلوليّة والمعطّلة، والمجسّمة والمشبِّهة والراوندية والكلابية والسلمية وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها، بأزمة الضلال، وبان لي أن كثيرًا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدّسة المحمّدية، الظاهرة على كلّ دينٍ ، العلية. وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قلَّ أن سمعت أو رأيت مُعرِضًا عن الكتاب والسنّة مقبلًا على مقولاتهم إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده. فلمّا رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كلِّ من يقدر على دفع شبهم وأباطيلهم وقطع حجّتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم. وزيف دلائلهم، ذبًّا عن الملّة الحنيفية والسنّة الصحيحة الجليلة.

ولا والله ما رأيت فيهم أحدًا ممّن صنّف في هذا الشأن، وادّعى علو المقام، إلّا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب ّالعالمين واتباعه طرق الفلسقة في الاصطلاحات التي سمّوها بزعمهم حكميات وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضًا عن غيرها أصلًا ورأسًا. فغلبت عليه حتّى غطّت على عقله السليم فتخبّط حتى خبط فيها خبطَ عشواء، ولم يفرّق بين الحق والباطل، وإلّا فالله أعظم لطفًا بعباده من أن لا يجعل لهم عقلًا يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه . لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال. وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانًا يزن به العبد الواردات فيفرّق بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل. ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده فكيف يُقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟ هذا باطل قطعًا. يشهد له كل عقل سليم، لكن (من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور).

قال الشيخ الإمام قدّس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جلّ همّي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة العلقلية والنقلية.

وممّا كان يراه ابن تيمية مؤثّرًا بصورة سلبية في الأصول الإلهية للمتفلسفة والمتكلمة في الإسلام:
علم المنطق، حيث إنه لم يكن علمًا محايدًا، وإنما تضمن حمولة معرفية تعكس المفاهيم الفلسفية المخزونة فيه. يقول شيخ الإسلام:
ثم لما كنت بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظّم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرت له بعض ما يستحقونه من التجهيل والتضليل. واقتضى ذلك أني كتبت في بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق مل علّقته تلك الساعة، ثم تعقبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تمّ. ولم يكُن ذلك من همّتي، فإن همّتي إنما كانت فيما كتبته عليهم في (الإلهيّات).

وتبيّن لي أن كثيرًا ممّا ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات، مثل ما ذكروه من تركّب (الماهيات) من الصفات التي سمّوها (ذاتيات)، وما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من (الحدود والأقيسة والبرهانيّات)، بل فيما ذكروه من (الحدود) التي بها تعرف (التصورات)، بل ما ذكروه من صور (القياس) ومواده (اليقينيات).

ولعلنا هنا يمكن أن نلخّص على عجالة العلّة التي ترتب عليها ما رآها شيخ الإسلام في علم المنطق، وبيان أنه ليس علم آلة محايد، وإنما هو قالب حمل المضامين الفلسفسة للذين وضعوه طوروه، خارج البيئة الدينية بشكل عام، وخارج البيئة الإسلامية بشكل خاص.

وذلك من خلال نقطتين أساسيّتين:

الأولى: أنّ بعض مبادئ علم المنطق ومفرداته تأسست على يد فلاسفة وثنيين، الذين كانو قبل أرسطو، وكانت لهم تصوّراتهم الخاصة للوجود وللإله. ثم توج ذلك على يد الفيلسوف أرسطو، وهو مثلهم. فنشأ علم المنطق كقوالب في بيئة وثنية بعيدة عن التصورات الدينية الصحيحة المستمدة من الوحي الإلهي.

الثانية: أنه بعد زوال الجيل اليوناني المؤسس لعلم المنطق، وظهور الجيل الثاني من رواد المنطق اليوناني، بعد ظهور الديانة المسيحية، احتدمت المعركة بشكل ضار بين فلول الفلاسفة اليونان من الوثنيين وبين أتباع المسيحية بمختلف مشاربهم، حول تصوراتهم للإله والوجود.

ولعل من أهم فلاسفة هذا الجيل: أفلوطين، الذي صنع نظامًا عقائديًا فريدًا في تصوراته للإله -المتعالي المحض- قائمة على التجريد والسمو (التعطيل)، وأن ربه يسمو فوق كل التصورات وكل الحدود، مادية  أو مجردة. وكان أفلوطين مبغضًا ومعاديًا للدين المسيحي، وقد نظامًا معرفيًا لموجهتها.

وتوج هذا الجيل تلميذ أفلوطين، وهو فرفريوس، والذي كانت عداوته للمسيحية صراحًا جهارًا، حيث تولى التلميذ إعادة استخدام تراث شيخه أفلوطين وتنظيمه وصياغته ونشره، وكذلك تراث أرسطو والفلاسفة والمنطقيين قبله، لتكوين نظام وقوالب عقلية يواجه فيها أتباع الديانة المسيحية.

فاستخدم كل ذلك في حربه مع المسيحية، فأخذ واستخدم منطق الرواقية الخاص بالحدود والقضايا، وأخذ مقولات أرسطو، وكان غرضه من استخدام المنطق بهذه الصياغة هو إعادة "هيكلة النظام الميتافيزيقي"، لمواجهة الأديان السماوية في وقته: اليهودية والمسيحية.

وممّا ألّفه فرفريوس المنطقي في هذا الشأن كتابه (ضد المسيحيين). لكن كتابه الأهم هو (المقدمة) أو (الإيساغوجي)، الذي ترك أثرًا عظيمًا بعده، وطال تأثيره لاحقًا التيارات الفلسفية في الديانات السماوية الثلاث، أثره في تقسيمات الوجود المنطقية، ومفاهيم مثل الجوهر والعرض، ودخولها في العقائد!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply