السمت الحسن شعار الأبرار


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

كنز هذه الأمة وثروتها  الحقيقة في أبرارها ... إنهم التجسيد الحقيقي لقيمها ومُثلها، وهؤلاء الأخيار ما فاقوا  عوام الناس بفاخر ثيابهم, ولا بحسن طلعتهم, ولا بكرائم أموالهم, وإنما بصالح أعمالهم وحسن سيرتهم حتى اشتهروا بسمة أهل الخير التي هي أعظم جائزة لهم في الدنيا وما عند الله في الآخرة خير لمن اتقى  

فعن عبد الله بن سرجس قال ﷺ: (السمت الحسن، والتؤدة, والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة) (1) والسمت الحسن هو حسن الهيئة والمنظر, وأصل السمت الطريق ثم استعير للزي الحسن والهيئة المثلى في الملبس وغيره من السيرة المرضية والطريقة المستحسنة, وفي الفائق: السمت أخذ المنهج ولزوم المحجة

قال تعالى: (يا بني آدم قد لأنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ، ولباس التقوى ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون) الأعراف  26 قال ابن عباس : ولباس التقوى هو السمت الحسن في الوجه , وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود) الفتح 29,

قال ابن عباس  يعني السمت الحسن, وقال مجاهد وغير واحد يعني: الخشوع والتواضع, وقال ابن أبي حاتم عن منصور عن مجاهد (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) قال: الخشوع, قلت ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه, فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون, وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم, وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار, وقد أسنده ابن ماجة في سننه عن جابر قال رسول الله ﷺ: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار) (2) والصحيح أنه موقوف, وقال بعضهم: إن للحسنة نورا في القلب, وضياء في الوجه, وسعة في الرزق, ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان  ما أسر أحد سريرة, إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه, وفلتات لسانه. والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه, فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس, كما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته

فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم, وحسنت أعمالهم, فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم , وقال مالك: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا, وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة , وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله   وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا (ذلك مثلهم في التوراة) ثم قال (ومثلهم في الإنجيل) (3) وقال عبد الله بن مسعود : والله ما رزق الله تعالى منافقا هديا ولا سمتا 

وهذه الأمة على مدار تاريخها غنية بأبرارها من السلف الصالح الذين تستروح القلوب بذكرهم, وتمتلئ النفوس فخرا بسيرتهم, في عصر الأقزام الذين ضخمهم الإعلام المزيف قسرا في أعين جيل متعطش للقم ولنصر حقيقي يشفي صدور قوم مؤمنين  

فعن أبي كثير بن يحيى قال: قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عامله عليها, فصلى بالناس الظهر, ثم فتح باب المقصورة واستند إلى المحراب واستقبل الناس بوجهه فنظر إلى صفوان بن سليم عن غير معرفة, فقال يا عمر من هذا الرجل؟ ما رأيت سمتا أحسن منه, قال: يا أمير المؤمنين هذا صفوان بن سليم, قال يا غلام كيس فيه خمسمائة دينار, فأتى بكيس فيه خمسمائة دينار, فقال لخادمه: ترى هذا الرجل القائم يصلي فوصفه للغلام حتى أثبته, قال فخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان, فلما نظر إليه صفوان ركع وسجد ثم سلم وأقبل عليه, فقال: ما حاجتك ؟ قال أمرني أمير المؤمنين ــ وهو ذا ينظر إليك وإلى ــ أن ادفع إليك هذا الكيس فيه خمسمائة دينار, وهو يقول استعن بهذه على زمانك وعلى عيالك. فقال صفوان للغلام: ليس أنا بالذي أرسلت إليه, فقال له الغلام: ألست صفوان بن سليم؟, قال بلى أنا صفوان بن سليم, قال فإليك أرسلت, قال اذهب فاستثبت فإذا استثبت فهلم, فقال الغلام فامسك الكيس معك وأذهب, قال لا إن أمسكت فقد أخذت, ولكن اذهب فاستثبت وأنا ههنا جالس, فولى الغلام وأخذ صفوان نعليه وخرج فلم ير بها حتى خرج سليمان من المدينة (4)  

وهذا ابن سكينة الذي يقول عنه الذهبي: الشيخ الإمام العالم الفقيه المحدث الثقة المعمر القدوة الكبير, شيخ الإسلام مفخرة العراق, ضياء الدين بن سكينة البغدادي الشافعي, وسكينة هي والدة أبيه، قال ابن النجار: شيخنا ابن سكينة شيخ العراق في الحديث والزهد وحسن السمت وموافقة السنة والسلف, عمر حتى حدث بجميع مروياته, وقصده الطلاب من البلاد, وكانت أوقاته محفوظة لا تمضي له ساعة إلا في تلاوة أو ذكر أو تهجد أو تسميع, وكان إذا قرئ عليه منع من القيام له أو لغيره , وكان كثير الحج والمجاورة والطهارة, لا يخرج من بيته إلا لحضور جمعة أو عيد أو جنازة, ولا يحضر دور أبناء الدنيا في هناء ولا عزاء, يديم الصوم غالبا, ويستعمل السنة في أموره, ويحب الصالحين, ويعظم العلماء, ويتواضع للناس, وكان يكثر أن يقول [أسأل الله أن يميتنا مسلمين] وكان ظاهر الخشوع, غزير الدمعة ويعتذر من البكاء ويقول [قد كبرت ولا أملكه] وكان الله قد ألبسه رداء جميلا من البهاء وحسن الخلقة وقبول الصورة ونور الطاعة وجلالة العبادة, وكانت له في القلوب منزلة عظيمة, ومن رآه انتفع برؤيته, فإذا تكلم كان عليه البهاء والنور, لا يشبع من مجالسته, ولقد طفت شرقا وغربا ورأيت الأئمة والزهاد فما رأيت أكمل منه ولا أكثر عبادة ولا أحسن سمتا, صحبته قريبا من عشرين سنة ليلا ونهارا وتأدبت به وخدمته وقرأت عليه بجميع رواياته وسمعت منه أكثر مروياته وكان ثقة حجة نبيلا علما من أعلام الدين (5)

الهوامش

 (1) رواه الترمذي ــ كتاب البر والآداب والصلة ــ باب ما جاء في التأني والعجلة رقم 2010‌ ورواه أبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني  2/336 رقم 1105 ، وعلاء الدين على المتقي في كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال رقم 6376 , والحديث حسنه الألباني انظر حديث رقم: 3692 في صحيح الجامع السيوطي / الألباني ، وقال أيضا في صحيح الترغيب والترهيب رقم 1696 (حسن صحيح)

(2) ضعيف : ضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 5816 (3) تفسير ابن كثير ــ آخر تفسير سورة الفتح بتصرف  (4) صفة الصفوة لابن الجوزي 2/152 (5) سير أعلام النبلاء للذهبي ج21 ص 504

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply