في هشاشة النفوس


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

ذَكَرَ اليونيني في كتابه (ذيل مرآة الزمان)، أنَّ مجلسًا، وهو مجلس سيف الدين الآمدي، قد ضم ثلة من الفقهاء والعلماء والأدباء، منهم: العز ابن نجا الضرير الأربلي، والشاعر الأديب المتفلسف، والشيخ الفقيه عز الدين ابن عبد السلام.

فجرى في ذلك المجلس البحث في مسألةٍ جَدَلِيَّةٍ ما (ليس هذا محلها)، ومما جاء في سياق ذلك النقاش والجدل أن أورد أحدهم هذه الآية الكريمة: (يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). فبكى سيف الدين الآمدي عند سماعها! فعجبِ منه العز ابن عبد السلام وكأنه عتب عليه ولامه. فقال له الآمدي: "إنما وقع في خاطري شيءٌ أبكاني".

وهذا الذي وَقَعَ في خاطر الآمدي وجعله يجهش بالبكاء، هو ما قد تعرض له، فقد ذَكَّرَتُه الآية وقصتها بآلامه ومصابه الذي مضى، فكأنها استجابة شرطيَّة، جَدَّدَت واستعادت ما قد مضى وانقضى في الظاهر، وهو ليس إلا كالجمر تحت الرماد، نفخت في تلك الكلمات الذكرى، فطيَّرَت عنه رماد النسيان.

قال الصفدي: "تخرج به جماعة، فقاموا عليه ونسبوه إلى انحلال العقيدة، وكتبوا محضراً ووضعوا خطوطهم فيه بما يستباح به دمه...فخرج سيف الدين إلى الشام مستخفياً".

وقال الذهبي: "كان من أذكياء العالم... قاموا عليه، ونسبوه إلى فساد العقيدة والانحلال والتعطيل والفلسفة، وكتبوا محضرًا بذلك. قال القاضي ابن خلكان: وضعوا خطوطهم بما يستباح به الدم. فخرج مستخفيًا إلى الشام".

ووصف الصفدي طباعه الشخصيَّة، فقال عنه إنَّه: "كان خيّر الطباع، سليم القلب، قليل التعصب، فيه رقة قلب، وسرعة دمعة".

 

وهكذا إذا ما النفس تعرضت للظلم من أقرانها، إما بغير وجه حقٍ، أو اعتقدت في نفسها أنها مظلومة، كَبُرَ ذلك عندها وعَزَّ عليها، وأَحَسَّت بالضيم والقهر، وتألمت في أعماقها، وما يزال جرحها يثخنها، وصار يُنكأ عند أي خاطرة تردها، فهَشَّت ورَقَّت وتناهت في الإحساس بالوحشة من الخلق، حتى إنها لتهيج بالبكاء وتنكسر عند أي لمحةٍ أو طارقٍ يذكرها بمصابها وجرحها الذي لن يندمل.

وإنَّه لتزداد وتتعمق الهشاشة والرقة عند الحوادثِ الجائرة من الأقران والأصحاب ونحوهم، ممن كنتُ لا تظن أن يهضم جانبك من قِبَلِهم، إذا كانت الروح في أصلها هَشَّةً رقيقةً، حسَّاسة طيبة، سليمة القلب، كريمة الطبع، فطرتها نقية طاهرة، فإن الطيب الحساس لا تندمل جراحه، ولا يزال ينزف حتى يلقى ربه.

وإنك لتراه يسكب العبرة عند كل مهيج يُهَيِّج خاطره، من ذكرى تثيرها فكرة أو صوت، وإن حضر قصص وعظ أو صلاة جهرية زاد في بكائه وتوجعه عن الحد الذي يفترضه السياق، وإنما ذلك البكاء بسبب ما ارتبط في وجدانه بذلك الصوت الشجي أو تلك الخاطرة المرتبطة بذلك الحدث في أعماقه!

وإذا علمتَ ذلك، فلا تخجل بعد اليوم من توجعك، ولا تستكبر من تألمك، ولا تتعالى عن دموعك، فهذه سنن قد مضت عليها العظماء والكبار، ولا يجحد ذلك إلا مكابر معاند، فالنفوس الإنسانية هشَّة شفَّافة، واعترافها بضعفها بالبكاء والتوجع؛ يعيد توازنها وولادتها من جديد، ويغسلها ويطهر نفوسها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply