مرافعة عن وسائل التواصل


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

سأسجل اعترافًا أعنيه تمامًا: أنا ممن يحمد الله أنه من جيل أدرك وسائل التواصل، وأدين لها بكثير من التغيرات والأفكار والإفادات، وأن بعضًا ممن يهجوها لتضييعها وقته صادق؛ أما الأغلب فيخادع نفسه، وأن المشكلة فيه، وأنه من ذلك الصنف الذي لو فقد وسائل التواصل لكان ممن يضيع وقته بصورة أخرى، حتى لو وضع نفسه في غرفة وأغلق عليه الباب وكتبه؛ فسيكتب ذكرياته على طرف الصفحة، وسيراقب النملة التي تعلو الجدار، لأن القابلية لتضييع الوقت في داخله، ووسائل التواصل مجرد شماعة .

أجلّ ما علمتني وسائل التواصل فكرة التعلم من الجميع، فأنت لم تعد تقتصر على التعلم من شيخ له سمتٌ وهيئة معتادة، وسّعت موارد أخذك فصرت أكثر قدرة على قبول الحق بصرف النظر عن قائله، وفي هذا من فوائد السلوك وعوائد المعرفة مافيها .

أرواحنا المتعاظمة صارت أكثر تهذيبًا؛ فنحن هنا نرد ويُرد علينا، نخالط السوي وغيره، يخاطبنا المؤدب ومن غلبته نفسه، يأتيك في لحظة واحدة تعليق مبدوء بلقب فخم، وآخر يناديك كأصغر أبنائه.

من أنواع/مباحث علوم الحديث اللطيفة "رواية الأكابر عن الأصاغر": أي أن يروي عمن هو أقل منه طبقة أو سنًا، يقول عنه الحافظ السخاوي -رحمه الله- في فتحه :

"الأكابر الذين يروون عن الأصاغر؛ وهو نوع مهم تدعو لفعله الهمم العلية، والأنفس الزكية"[1]

يعلق الشيخ عبدالفتاح أبو غدة -رحمه الله- على نحو هذا النوع بقوله:

"وفي تلقي هؤلاء الأئمة الأكابر العلم عن تلاميذهم دليلٌ على أن تحصيل العلم لديهم أغلى وأعلى من المحافظة على سمعةِ المقام العلمي والأستاذية، فلذا جلسوا بين أيدي طلبتهم وتلامذتهم يسمعون منهم، ويأخذون عنهم، على رؤوس الأشهاد من الناس ومن تتلمذوا لهم، فلا غضاضة تلحقهم بهذا، وإنما يكسبون به فخرا وذذكرًت حسنًا ورفعة تدل على طيب نفوسهم وسموّ تواضعهم.."[2]

وهذا ملاحظ؛ ففي بدايات وسائل التواصل دخل بعض الأفاضل بعباءة السمتِ العالي، وذيلوا منشوراتهم بـ"الإشراف"، وهذا أمر لا نكير عليه في أصله، ولم تزل بهم خلطة الناس من كل الطبقات، والاحتكاك بمختلف الطباع حتى زالت الرسوم، وصار الحواجز أخف .

لستُ محتاجًا للقول بأن هذا محض رأي وتجربة، وأني ممتن لوسائل التواصل التي عرفت بها أصدقاء بررة، وتعلمت منها معارف ومكارم ما كان لي التلبس بها دونها، وهذبت بي نوازع حب الرسوم وتكلف الهيئات وبعض أشواك العلوّ، أما ضياع الوقت فقد أسلفت القول أنه لا يكون إلا لمن كانت له قابلية للضياع أصلًا، والمؤمن رجاع عند الإفراط، سريع الأوبة حين تختل الموازين .

 [1] فتح المغيث (4/164)

[2] انظر عشرات الأمثلة لهذا الملمح في كتاب : "العلماء الكبار الذين تلقوا العلم عن تلامذتهم الصغار" للبحاثة : محمد بن عزوز.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply