الدنيا الأخيرة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

قد يعتقد البعض أن كلا من الدنيا والآخرة حياتان متباينتان لا يمكن أن يلتقيا بأي وجه من الوجوه، على اعتبار أن الدنيا لعب ولهو وغرور وصرف الاهتمام لها ضرب من الضلال، ولا حظ لصاحبها في نيل الحياة الأخرى؛ إذ هي لأهل الزهد والدروشة، وهذا الاعتقاد أو الظن مرده إلى الفهم القاصر والشائع عن مفهوم الدنيا، فانحرف مفهومها عن حقيقته وحمولته القرآنية الفعالة كما وقع لكثير من المفاهيم القرآنية بتأثير الفكر الدخيل على القرآن .ولما كان القرآن الكريم " حاكما على كل المفاهيم في هذه الأمة ، بمعنى أن أي مفهوم سواء ما تعلق بالعلوم الشرعية أو العلوم الإنسانية أو المادية يجب أن يكون موزون بميزان القرآن،فما قبله ميزان القرآن أخذ وما رفضه ترك، فالقرآن هو الميزان وسواه هو الموزون به، والقرآن هو الحاكم وغيره المحكوم عليه به، والقرآن هو الأصل،ومصطلح الأصل يعني الوحي أي المصطلحات والمفاهيم  التي استعملها الوحي  " (1)_لما كان الحال كذلك_ وجب لتصحيح ما قد أصاب مصطلح الدنيا من تشوه إرجاعه إلى نسقه القرآني وقراءته ضمن سياقات وروده في القرآن.

وعليه سيحاول هذا العرض أن يجيب عن إشكالية مفادها، إلى أي حد يعد الفهم السائد للدنيا وفيا لدلالتها في القرآن الكريم ؟

خطة البحث:

المطلب الأول : الدنيا و سياقاتها في القرآن الكريم.

الفرع الأول: تعريف الدنيا لغة واصطلاحا.

أولا :الدنيا لغة.

ثانيا: الدنيا اصطلاحا.

الفرع الثاني: سياقات ورود الدنيا في القرآن الكريم.

السياق الأول  :مخاطبة الظالمِ لنفسه.

السياق الثاني  :مخاطبة المقتصد.

السياق الثالث : مخاطبة السابقين بالخيرات.

المطلب الثاني : علاقة الدنيا بالعمران.

الفرع الأول :مفهوم العمران.

أولا:العمران في اللغة

ثانيا: العمران في الاصطلاح.

ثالثا : العمران في القرآن الكريم.

الفرع الثاني:علاقة الدنيا بالعمران.

أولا: مبدأ الاستخلاف أساس العمران.

ثانيا: النهي عن الإفساد في الأرض من صور العمران.

ثالثا: واجب المؤمن عمارة الحياة الدنيا والآخرة. 

الخاتمة.

المطلب الأول : الدنيا وسياقاتها في القرآن الكريم.

الفرع الأول : الدنيا لغة واصطلاحا.

أولا: الدنيا في اللغة.

الدنيا هي نقيض الآخرة، سميت بذلك لدنوها أي لأنها دنت وتأخرت الآخرة، وكذلك السماء الدنيا هي القربى إلينا، وقيلالدنيا اسم لهذه الحياة سميت بذلك لبعد الآخرة عنها(2) 

ثانيا: الدنيا اصطلاحا .

الدنيا أو الحياة الدنيا هي ذلك الحيز المكاني والزماني منذ خلق الله الكون وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي بالنسبة للآدمي أو جنس الإنسان تمتد منذ خلق الله آدم عليه السلام وإلى أن تقوم الساعة، أما بالنسبة للأفراد أو الأشخاص فهي لا تعدو تلك الفترة الزمنية التي تمتد من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة(3)

 

الفرع الثاني: سياقات الدنيا في القرآن.

ذكر لفظ الدنيا في القرآن الكريم مائة وخمس عشرة مرة، مضافة غالبا للحياة . ووردت في سياقات مختلفة ، تبدو في ظاهرها وكأنها سياق واحد ، وهو مقام الذم والتبغيض والتخسيس ، وهذا الظاهر هو مرد ما ساد من فهم غير دقيق لهذا اللفظ _ الدنيا _ في تراثنا الإسلامي عموما وبعض التيارات الفكرية خصوصا ، حيث اعتبرت الدنيا اسم شامل لكل معارض ومناف للدين ، وأن الدنيا والآخرة طريقان لا يمكن الجمع بينهما في تصور أو واقع . وسيحاول هذا المطلب أن يثبت مدى صدقية هذا الفهم . من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة :

أولها ما مستويات الخطاب القرآني في حديثه عن الدنيا ؟

ثانيا : ما متعلق هذه المستويات ؟

ثالثا : إلى أي مدى تسعف سياقات الدنيا في القرآني ومتعلقاتها الفهم السائد للدنيا؟

عند النظر في الآيات التي وردت فيها "الدنيا" يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مستويات خطابية:

المستوى الأول جاء فيه ذم الدنيا مطلقا مما يفيد دونيتها وغرورها وزوالها.

المستوى الثاني جاء فيه الموازنة بين الدنيا والآخرة مع ترجيح للثانية على الأولى.

المستوى الثالث ذكرت الدنيا بذكر حسناتها وعيشها الطيب.

وكل سياق من هذه السياقات إلا وله متعلَّق ، وقد أرجع البعض تعدد الخطاب القرآني في الحديث عن الدنيا إلى عنصري الزمان والمكان ، كمن اعتبر أن القراءة لصحيحة لهذه السياقات تكمن في مراعاة المكي والمدني منها . غير أننا لم نجد في هذا التقسيم ما يحقق الانضباط المأمول، فحاولنا إيجاد متعلق يكون أكثر انضباطا ويضمن للمستويات الخطابية الثلاثة فاعلية وحياة في كل زمان ومكان، فكان هذا المتعلق هو "الإنسان" بأصنافه الثلاثة كما جاءت في قول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]

ومما قيل في هؤلاء الأصناف الثلاثة أن (4):

- الظالم لنفسه الجاهل(بالمعنى عام) .. والمقتصد المتعلم .. والسابق العالم .

- الظالم لنفسه صاحب الدنيا .. والمقتصد طالب العقبى .. والسابق إلى الخيرات طالب المولى.
-الظالم لنفسه من غلبته نفسه الأمارة فأطاعها.. والمقتصد من جاهد نفسه فغلبته ثارة وغلبها أخرى .. و السابق للخيرات من قهر نفسه.

ويكون بذلك كل مستوى من مستويات الخطاب القرآن حول متعلق بصنف من تلك الأصناف الثلاثة وفيما يلي سنحاول التفصيل في كل صنف والخطاب الذي يناسبه:

 

السياق الأول: مخاطبة الظالمِ لنفسه.

خاطب القرآن الكريم  الظالم لنفسه بذم الدنيا بإطلاق وتنفير منها بالكلية ، والظلم مراتب، فيكون بذلك الظالم لنفسه كل من ركن للدنيا ، وقصر نظره عليها ، وجعلها مقصدا لا وسيلة، إما فعلا أو فعلا واعتقادا، فيدخل في هذا المعنى المسلم المقر بالله بلسانه لكن جوارحه هجرت الإسلام بالكلية ولم يبقى منه عنده إلا الاسم ، انهزم عقله في صراعه مع نفسه الأمارة وآثر الاستسلام للملذات والشهوات بائعا آخرته بدنياه ودينه بهواه. كما يدخل في ظالم لنفسه الملحد ، من قصر علمه فلم يجاوز عنده البصر ، واختل عقله فرضي لنفسه بأن يكون في الوجود قذر، فسعى للدنيا فقط لأنها إلهه ومادتها رحمه وفصيلته.

فجاء الخطاب إلى هؤلاء متساوقا وتطرفهم ، ومتوائما وميولهم التام إلى الدنيا،ومن أمثلة آيات هذا الصنف :

- قال تعالى:{فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة:200]

- قال تعالى :{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}  [الجاثية:24]

- قوله تعالى:{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.[الأنعام: 29].

- قال تعالى :{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}[الكهف:45]

- يقول تعالى :{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم :29،30]

- قال تعالى:{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}[الأنعام:70]

- {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[الأعراف:51]

- وقوله تعالى:{إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}[محمد : 36]

إذن فذم الدنيا لهؤلاء ليس لذاتها وإنما لموقفهم منها ، لأنهم قاموا منها مقام العبد لمعبوده ، فلم يسكونها بل سكنتهم ولم يضعوها في يدهم إنما ملّكوها قلوبهم ، فجاء الخطاب يناسب داءهم بتحقير الدنيا بالكلية في أعينهم وقلوبهم. ولعلنا نستدل على قولنا هذا بأن نرجع للقرآن حيث نجد أن قارون أوتي الدنيا وزينتها فلما كان من صنف الظالم لنفسه فذم وذمت دنياه وخسف به وبها ، لكن لما تعلق الأمر بسيدنا سليمان عليه السلام الذي أوتي من الملك ما لن يؤتى بمثله أحد، بورك له في ملكه بالنماء وحسن الذكر في العالمين.

 

السياق الثاني : مخاطبة المقتصد.

جاء هذا الخطاب للمقتصد في سياق المفاضلة بين الدنيا والآخرة ، والمقتصد هو المسلم الذي تعادلت نوازعه للخير والشر في نفسه، فكانت الحرب بين نفسه وعقله لا تضع أوزارها، بين كر وفر دائمين، فتارة تكون الغلبة للنفس فيقترف المحذور، وتارة يظفر العقل فيستقيم وفق المأمور.

ويتخذ الاقتصاد صورا ؛ إما بالاقتصاد في الطاعات فلا يجاوز الفرائض كفعل الأعرابي ، أو يكون باقتراف المحذورات لا استخفاف وإصرارا ولكن ضعفا وانهزاما ...

ومن تم فهذا الخطاب هوجه للمؤمنين المقتصدين عندما يعرض لهم أمر من الأمور المباحة اجتمع فيه حظ دنيوي لنفسه وحظ لدينه أخروي فيوثرون الدنيا على الآخرة ، فجاء القرآن الكريم  يخاطبهم مبينا فضل الآخرة الدائمة على الدنيا الزائلة، وفيما يلي نذكر بعضا من الآيات التي جاءت في هذا السياق.

- قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَ قَلِيلٌ}[التوبة: 38]

- {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:152]

- قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: 94]

- قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 74

- قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}[التوبة : 38]

فيظهر من هذه الآيات أن سلفنا في هذا الصنف كان من صحابة _ رضي الله عنهم _  وأن الغرض هو الحث على الاستزادة من الطاعة ، وبذلُ بعض نعم الدنيا رغبة في الآخرة ، وجعلُ الدنيا مزرعة لها ، وعند التعارض فالرجحان للباقي على الزائل والدائم على الفاني.

 

السياق الثالث : مخاطبة السابقين بالخيرات.

السابق بالخيرات هو من امتثل أمر الله تعالى:{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[ البقرة: 148], بزيادة في القدر على فعل الخيرات ، بفعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، طمعا منه أن ينال السبق في الآخرة .ومن صفات السابقين بالخيرات الخوف من عدم قبول عملهم مع اشتغالهم بالعمل، ومن صفاتهم الإقبال على الآخرة والزهد في الدنيا ، ومن صفاتهم أيضا أنهم ملكوا عَنان نفوسهم وساقوها إلى الله سوقا ، فهم أناس سمت أرواحهم وعلت همتهم فكانوا في سباق دائم مع الزمن ، ليتزودوا للآخرة. غيره أنهم في خضم هذا السباق قد يميل بعضهم للانفصال عن الدنيا بهجر كل ما يربطهم بها منها ،فيقول الواحد منهم  مثلا كما قال الثلاثة_ أنا أصوم ولا أفطر وأنا أقوم فلا أنام ، وأنا أعتزل النساء_ بدافع السبق بالخير ، فجاء خطاب القرآن لهذا الصنف من الناس يذكرهم بحظهم من الدنيا ونصيبهم من طيباتها وإن كان قد حُقّ لأحد أن يتنعم في الدنيا فأهل الصلاح أولى ، ما دامت لا تتعلق بها قلوبهم . ومن الآيات التي تعبر عن المعنى الذي ذكرنا:

 -  قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77] وهذه الآية مؤسسة للمنهج الذي ينبغي التعامل به مع كل متاع الدنيا وفق تصور وسطي سليم.

- قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]والأنبياء وهم القدوة والأسوة حسنة لكل سابق للخير قد فقهوا هذا المنهج القرآن وتمثلوه في أقوالهم وأفعالهم:

- قال تعالى في إبراهيم {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}[النحل:121- 122]

- وقال تعالى على لسان يوسف عليه السلام :{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف:101]

- وتأتي الملائكة تبشر أمنا مريم بوجاهة ابنها عليه السلام في الدنيا والآخرة: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ  وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[آل عمران45]

- قال تعالى :{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[يونس:98]

ومما تقدم تبين لنا أن فهم سياقات الدنيا في القرآن مربط بتحديد متعلق كل سياق من أصناف الناس، حتى نتجنب الفهم القاصر والمشوه للدنيا، فهي لم تذم لذاتها ولكن بحسب موقف الإنسان منها.

واتضح لنا المنهج الذي وضعه القرآن في التعامل مع الحياة الدنيا، منهج يهدف إلى تصويب موقف الإنسان منها، حتى تكون في نظره قنطرة للآخرة ومزرعة ووسيلة لها ، فلا يجعلها غاية، ولا يستغني عنها بالكلية. وهو ما بينه الماوردي رحمه الله بقوله: " ثم إن الله تعالى جعل أسباب حاجاته وحيل عجزه في الدنيا التي جعلها دار تكليف وعمل، كما جعل الآخرة دار قرار وجزاء، فلزم لذلك أن يصرف الإنسان إلى دنياه حظا من عنايته؛ لأنه لا غنى به عن التزود منها لآخرته، ولا له بد من سد الخلة فيها عند حاجته"(5)

ويقول الشيخ رشيد رضا: " وليس من هدي الإسلام أن يترك المسلمون الدنيا ومعانيها وسياستها ويكونوا فقراء أذلاء تابعين لغيرهم من الأقوياء ولا أن يكونوا كالأنعام لا همَ لهم إلا في شهواتهم البدنية ". (6)

 

المطلب الثاني: علاقة الدنيا بالعمران.

إن فقه العمران هو من أنواع الفقه الغائب لعقود من الزمن، اندثرت كل محاولات التنظير والترشيد لفقه يحمل المسلم إلى الأرض وبناءها ،وتأسيس نهضة مدنية لمجتمعاتنا.وللأسف أن هذا الفقه ليس في بيانه والتعريف به فحسب، بل تجاوز إلى إلغاءه وإنكاره أحيانا من فقه شريعتنا الغراء واعتباره من مشاغل الحياة الدنيا الفانية على حساب الآخرة الباقية . (7)

وسيكون الحديث في هذا المطلب عن العُمران لغة واصطلاحا ،ومحاولة معرفة ما ورد عنه في لغة القرآن، ثم ننتقل للحديث عن العلاقة التي يَبْنِيها القرآنُ الكريم بين إعمار الأرض وطبيعة الحياة عليها، والمصير بعدها.

 

الفرع الأول :مفهوم العمران.

أولا:العمران في اللغة.

قال ابن فارس: العين والميم والراء أصلان صحيحان، أحدهما يدل على بقاء وامتداد زمان، والآخر على شيء يعلو، من صوت أو غيره.

فالأول العمر وهو الحياة. وقول العرب: لعمرك، يحلف بعمره أي حياته. ويقال: عمّر الناس: طالت أعمارهم. وعمرهم الله تعالى تعميرا. (8)

والعُمران في اللِّسان العربي:هو نقيض الخراب.

 

ثانيا: العمران في الاصطلاح.

فالعمران البشري في الشرع هو: "إسْكان في منطقة معيَّنة لهدف معيَّن يتطوَّر مع الزمان، إلى اجتِماع بشري يسوده الأمن ويتوفَّر على أسباب العيش".  (9)

هذا التعريف مستنبط من دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام في قوله عز وجل :

{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم،36].

وقوله عز وجل :{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة ،126].

ومن خلال التعريف نستطيع أن نستخرج العناصر التالية وهي:

أ-فعل الإسكان :

وهو الإقامة والاستقرار في مكان معين بغرض البقاء مدة زمنية طويلة.

ب-تحديد المكان وموقعه:

  فالمكان  قصد به الوادي غير ذي زرع عند البيت  المحرم.

   وأما الموقع فقصد به أن يكون قريبا من التجمعات البشرية.

ت- تحديد الهدف:

تبيان للغاية والفكرة المرجوة من الإقامة والإسكان و لقد كانت  غاية  إبراهيم  من إسكان  ذريته في ذاك المكان هو عبادة الله عز وجل.

ولمالك بن نبي معادلة تجمع عناصر الحضارة يتبين فيها دور كلٍ من جهد الإنسان في جمعه للأسباب المادية، ومرور الوقت الكافي لتطوير مؤسسات الحضارة وأدواتها. لكنَّه يرى أنَّ اجتماع هذه العناصر الثلاثة: (الإنسان، التراب، الوقت) (10)لا تنتج عنه بالضرورة حالة حضارية، وإنَّما يحتاج ذلك إلى قدر من الطاقة الروحية، أو الشعلة القادرة على تفعيل هذه العناصر واستثمارها لتؤدي دورها في الإنجاز الحضاري.

فمكونات البناء العمراني عند مالك ابن نبي هي معادلة على الشكل التالي:

الإنسان+ التراب+ الوقت+(طاقة روحية) =الحياة الدنيا= العمران.

 

ثالثا : العمران في سياق القرآن الكريم.

ولنحاول تقديم رؤية معرفية لهذا المفهوم من مرجعية قرآنية،وسيكون الحديث عن العمران، من منطلق الفهم لقيمة العمران، وعلاقة هذا الفهم بالحياة الدنيا التي يريدها الباري عز وجل للإنسان،فهو المقصود من التكليف ، فالعمران قيمة تحدد فقه العمل في الحياة الدنيا ، عمل الفرد والمجتمع .

لفظ العمران لم يرد في القرآن هكذا،وإنَّما ورد فيه ما يفيد الإعمار والتَّعمير، بألفاظ مختلفة:

وجاءت جاءت مادة عَمَرَ في القرآن الكريم أكثر من خمسة وعشرين مرَّة:

 أربع منها  متعلقة بعُمران المساجد: وبنائها وخدمتها .

يقول تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ*إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ *أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[ التوبة،17- 19].وقوله تعالى:{وَالطُّورِ*وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ *وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ*} [الطور: 1-4].

وجاءت ثلاث مرات بمعنى الإقامة :والاستقرار في الأرض وبناء المساكن وتشييد القصور والأخذ بأسباب الحضارة.

قال تعالى :{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * }[الروم: ٩].

وجاءت مرة واحدة بمعنى الحياة :حين أقسم الله سبحانه وتعالى بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم:

{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * } [ الحجر: ٧٢ ].

أما بقية المرات، فجميعها إشارة إلى مرور الزمن في حياة الإنسان :حتى يمرَّ من عُمُره سنين، أو يطولَ عُمُره منها: قوله  عز وجل:{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ * } [الأنبياء: 44].

وما يقابل العُمران في اللفظ القرآني هو: الفساد، والقتل، والتدمير، والخراب؛ إذ وردت جميع هذه الألفاظ في القرآن الكريم.((11

 

الفرع الثاني:علاقة الدنيا بالعمران.

إن العُمران في اللفظ القرآني يأتي بعدد من المعاني المتداخلة التي تمثل حقلاً دلالياً، تتكامل دلالاته، فهو يعني: حالة الحياة، والإقامة والسكنى والبناء في المكان، ويعني العمران المادي، والعمران الثقافي والفكري.

وسنتناول الحديث عن العلاقة بين الحياة الدنيا والعمران من خلال العناصر التالية:

 

أولا: مبدأ الاستخلاف أساس العمران:

لم تكن حياة الناس على هذه الأرض عبثاً، فقد جاء خلق الإنسان لغاية محددة هي عبادة الله سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولفهم معنى العبادة في سياق الغاية من خلق الإنسان جاءت الآيات الأخرى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ،فالخلافة في الأرض هي معنى العبادة، والخلافة هي إعمار الأرض ، والعمران هو شأن الإنسان في حياته الدنيا، في هذه الأرض، ليتولى فيها العمران وليقوم بحمل الأمانة. (12)

وبالخلافة يتم تنفيذ أوامر الله في إصلاح الدنيا والآخرة، ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهجه وشريعته؛ طاعةٌ ينال العبدُ عليها ثواب الآخرة، ويظفر بخيرات الأرض التي سخرها له ربه. وكما أن تارك الفرائض الشرعية يكون عاصياً لربه، ناكلاً عن امتثال أوامره التي جعلها الله سبباً لصلاح آخرته. فإن الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض، ولا يستغل طاقات الأرض والكون المسخر له يعتبر أيضا عاصياً لله، ناكلاً عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها، تاركاً للأسباب التي جعلها اللهُ سبباً لصلاح دنياه.وقد أمرنا الله بالقيام بأسباب الكسب للدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ((10}  [الجمعة:9-10]

وقد ربط ابن خلدون حياة الأفراد وحياة المجتمعات وحياة الدول بالعمران  فجعل للعمران البشري على هذه الأرض ثلاثة أركان:

 الركن الأول: هو تقوى الله، وهو حياة للقلب بتزكية النفس من الأهواء والشهوات.

والركن الثاني: هو السعي في الرزق، وفيه حياة المجتمع بالتعاون والتكافل والتكامل، لأنَّ الإنسان لا يستطيع بمفرده أن يستجمع متطلبات المعيشة والأمن.

أما الركن الثالث:فهو العدل في الحكم، وهو حياة الدولة بالعصبية واستجماع متطلبات السلطان. (13)

 

ثانيا: النهي عن الإفساد في الأرض من صور العمران.

إن مفهوم العمران يتمثل في عمران الأرض بحياة الإنسان، وعمران حياة الإنسان بالخير والعمل الصالح، والارتقاء بأسباب الحياة ومقوماتها بإنجازات عمرانية مادية ومعنوية.

ويتعزز معنى العمران بمعرفة ما يقابله،فهو حياة مقابل الموت،وصلاح وبناء مقابل الخراب والدمار و الهلاك (14)، وقد كان من جملة التكاليف التي أنيطت بحياة الإنسان في الدنيا ،أمره بإصلاحها ،والنهي عن الإفساد فيها، يقول الله عز وجل: { وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ } [الأعراف 142]، وكذلك نهيه عن الإفساد في الأرض في قوله تعالى: { وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف 56]، يقول القرطبي في قوله تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) ﴾ [البقرة 205-204] وَ"دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْحَرْثِ وَزِرَاعَةِ الْأَرْضِ، وَغَرْسِهَا بِالْأَشْجَارِ حَمْلًا عَلَى الزَّرْعِ، وَطَلَبِ النَّسْلِ، وَهُوَ. نَمَاءُ الْحَيَوَانِ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ قِوَامُ الْإِنْسَانِ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ..قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ: الْفَسَادُ هُوَ الْخَرَابُ."(15)

كما أن اختلال الدنيا مرتبط باختلال العمران ،وذلك بحصول فنائها وتقلُّبِ أحوالهَا، فتتبدَّل صحتُها بالسُّقم، ووجودُها بالعدمِ، وشبيبتُها بالهرَمِ، ونعيمهَا بالبؤسِ، وحياتُها بالموتِ، فتفارِقُ الأجسامُ النفوسَ، وعمارتُها بالخراب، واجتماعها بفرقةِ الأحبابِ. (16)

 

ثالثا: واجب المؤمن عمارة الحياة الدنيا والآخرة.

إن قيام الفرد الإنساني بأمانة الخلافة في الأرض ومهمة العمران فيها، هي وظيفة تُعَمَّر بها حياةُ الفرد حتى انتهاء عمره بالموت، وتمتدُّ لتعَمِّر حياةَ غيره بعد موته، بالصدقة الجارية،والعلم النافع، والولد: "إذا مات العبد الصالح انقطع عمله إلا من ثلاث  صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (17)، فضلاً عن عمران حياته الأبدية في الآخرة.

ومن الناس من يسعى مجتهداً، ليعمر دار الدنيا بألوان الكسب المادي، والمعنوي، ويكون غافلاً تماماً عن عمران الآخرة، فلا يكون مصير سعيه في الدنيا وعمرانه فيها غير الضلال (18)قال الله تعالى:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104].

فعمران الحياة في الدنيا مع خراب الآخرة، لا يعد في النتيجة عمراناً، وفي ذلك يقول أبو الفتح البستي:

يا عامراً لخَرابِ الدارِ مجتهدا    بالله هل لخراب العُمْرِ عُمرانُ.

وخير مثال  على ذلك ما ذكره الله سبحانه عن قارون الذي كان من قوم موسى عليه السلام، وقد حذره قومه من الفساد ونصحوه أن يبتغي الدار الآخرة فيما يجمع من المال، من الإنفاق في مصالح الناس وتيسر شؤون حياتهم، دون أن ينسى نصيبه من الدنيا من زينة الحياة وأسباب الرفاه، لكنه تحالف مع السلطان الفاسد، فجمع من الأموال ما إنَّ مفاتيح خزائنه تعجز عن حملها العصبة القوية من الناس، وادَّعى أن ما جمعه من مال هو ملكه، وأنه جمعه بعلمه بخبرته ومهارته، أو بكرامته على الله وتفضيله له (19)ولما لم يأخذ بنصيحة قومه في تصريف المال وإنفاقه، وانفصل العمران الدنيوي المتمثل بجمع المال، عن قيم العمران النافع،فكانت النتيجة أن خسف الله به وبماله الأرض، فلم ينتفع منه بشيء.

وفي المقابل تأتي قصة ذي القرنين مثالاً على توظيف العلم والخبرة في تقوى الله، ونفع خلق الله، والعمران الصالح المرتبط بقيم المساعدة وتقديم العون، والبناء النافع. فحين طلب منه القوم الذي كانوا بين السدين مساعدتهم في بناء السور، مقابل أن يعطوه أجراً على ذلك، قام بتوظيف ما مكنه الله منه من علم وخبرة، وما طلبة من القوم من توظيف اليد العاملة في جمع المواد الخام اللازمة للبناء، وقدم ذلك خدمة لهم دون أن يأخذ على ذلك أجراً. (20)

الخاتمة:

أهم النتائج المتوصل إليها:

تبين لنا أن فهم سياقات الدنيا في القرآن مربط بتحديد متعلق كل سياق من أصناف الناس، حتى نتجنب الفهم القاصر والمشوه للدنيا، فهي لم تذم لذاتها ولكن بحسب موقف الإنسان منها.

واتضح لنا المنهج الذي وضعه القرآن في التعامل مع الحياة الدنيا، منهج يهدف إلى تصويب موقف الإنسان منها ، حتى تكون في نظره قنطرة للآخرة ومزرعة ووسيلة لها ، فلا يجعلها غاية ، ولا يستغني عنها بالكلية.

العُمران في اللفظ القرآني يأتي بعدد من المعاني المتداخلة التي تمثل حقلاً دلالياً، تتكامل دلالاته، فهو يعني: حالة الحياة، والإقامة والسكنى والبناء في المكان، ويعني العمران المادي، والعمران الثقافي والفكري.

أما العلاقة بين الحياة الدنيا والعمران يمكن تلمسها من خلال العناصر التالية:

أولا: مبدأ الاستخلاف أساس العمران.

ثانيا: النهي عن الإفساد في الأرض من صور العمران.

ثالثا: واجب المؤمن عمارة الحياة الدنيا والآخرة.

والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

المصادر والمراجع:

-تفسير الشيخ أحمد حطيبة ،الشيخ الطبيب أحمد حطيبة ،مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، http://www.islamweb.net

2- النيسابوري، مسلم بن الحجاج. صحيح مسلم. بيروت: دار ابن حزم، ط 1995م ،دار الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم ١٦٣١  .

3- منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمر، فتحي حسن ملكاوي.

4- ابن نبي، مالك. شروط النهضة. ترجمة: عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي، دمشق: دار . الفكر، ١٩٧٩ م.

5- العمارة والعمران في ظلال القرآن، ثومي إسماعيل،بيت المعماريين العرب www.arch.arab-eng.org

6- معجم مقاييس اللغة ،أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفى: 395هـ)المحقق: عبد السلام محمد هارون ،الناشر: دار الفكر ،عام النشر: 1399هـ - 1979م.

7- تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) ،محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني (المتوفى: 1354هـ) ،الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب

سنة النشر: 1990 م.

8- أدب الدنيا والدين ، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ) ،الناشر: دار مكتبة الحياة ،الطبعة: بدون طبعة ،تاريخ النشر: 1986م.

9- نظرة النعيم إلى أخلاق الرسول الكريم . الحياة والنفس الإنسانية بقلمعبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملّوحدار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة الطبعة : الرابعة .

10- لسان العرب ،محمد بن مكرم بن على،أبو الفضل،جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711هـ)،الناشر:دار صادر  بيروت،الطبعة:الثالثة 1414 هـ.

11- الجامع لأحكام القرآن=تفسير القرطبي ،أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)،تحقيق:أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش ،الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة ،الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م.

جدول المحتويات:

[1] نظرات في مفهوم العمران في القرآن ن الشاهد البوشيخي ص1.

[2])لسان العرب ج3 ص 31435 .

[3]) نظرة النعيم إلى أخلاق الرسول الكريم ص4.

[4] مفاتيح الغيب ، الرازي ، تفسير سورة فاطر ،ج 26ص239.

[5] أدب الدنيا والدين ، الماوردي ، ص 131.

[6])تفسير المـــــــنار، رشيد رضا ،ص  118.

[7] فقه العمران ،مسفر بن علي القحطاني ،ص2.

[8]مقاييس اللغة ، ابن فارس ،ج4ص140.

[9]  العمارة والعمران في ظلال القرآن، ثومي إسماعيل ص13.

[10]. شروط النهضة ، ابن نبي ،ص44.

[11] منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمر، فتحي حسن ملكاوي، ص 128-130.                                                                             

[12]  منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمر ص137.

[13]منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمر ص 152.

[14]  منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمر ص 166.

[15]تفسير القرطبي، ج3ص18.

[16] تفسير الشيخ أحمد حطيبة،ج 3ص376.

[17]  صحيح مسلم ،باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم 1631 ، ص 1016.

[18] منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمر ص133.

[19] منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمر ص134.

[20]  منظومة القيم العليا التوحيد والتزكية والعمر ص 136.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply