الناس معادن


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ)

 

(تجدون الناس معادن) أي أصولا مختلفة ما بين نفيس وخسيس كما أن المعدن كذلك، ومعدن كل شيء أصله، أي: أصول بيوتهم تعقب أمثالها ويسرى كرم أعراقها إلى فروعها.

والمراد بالخيار والشرف وغير ذلك من كان متصفا بمحاسن الأخلاق كالكرم والعفة والحلم وغيرها، متوقيا لمساوئها كالبخل والفجور والظلم وغيرها.

وفي رواية: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته، فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، بل من كان شريفا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية.

وأخرج ابن سعد والحاكم وصححه، عن أم سلمة قالت: شكى عكرمة بن أبي جهل للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا مر بالمدينة قيل له: هذا ابن عدو الله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: (الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لا تؤذوا مسلما بكافر).

ولفظ ابن سعد فقال: (ما بال أقوام يؤذون الأحياء بسبهم الأموات، ألا لا تؤذوا الأحياء بشتم الأموات).

وعكرمة بن أبي جهل صحابي جليل، واسم أبي جهل عروة بن هشام المخزومي القرشي، كان شديد العداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو وأبوه، وكان فارسا مشهورا، وهرب يوم الفتح فلحق باليمن فلحقت به امرأته أم حكيم بنت الحارث فأتت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قال: (مرحبا بالراكب المهاجر) فأسلم بعد الفتح سنة ثمان، وحسن إسلامه، وقتل يوم اليرموك سنة ثلاث عشرة وله اثنتان وستون سنة.

قالت أم سلمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأيت لأبي جهل عذقا في الجنة فلما أسلم عكرمة قال يا أم سلمة هذا هو.

(فخيارهم في الجاهلية) سميت جاهلية لكثرة جهالاتهم (خيارهم في الإسلام) لأن اختلاف الناس في الغرائز والطبائع كاختلاف المعادن، فكما أن المعدن منه ما لا يتغير فكذا صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، ثم لما أطلق الحكم خصه بقوله (إذا فقِهوا) أي صاروا فقهاء فإن الإنسان إنما يتميز عن الحيوان بالعلم، والشرف الإسلامي لا يتم إلا بالتفقه في الدين، وقد جعله العرف خاصا بعلم الشريعة.  

فأعلمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن خيار الناس في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وخيارهم في الجاهلية هم أهل الشرف بالأنساب فإذا فقهوا في الإسلام كانوا خيار أهل الإسلام، وعقلنا بذلك أنهم إذا لم يفقهوا في الإسلام لم يكونوا كذلك، وكان من فقه سواهم ممن ليس له من النسب ما لهم يعلون بذلك.

والتفاخر هو الممنوع أما التفاضل فإن الله يفضل بعض الأجناس على بعض، فالعرب أفضل من غيرهم، لكن إذا كان العربي غير متق والعجمي متقيا، فالعجمي عند الله أكرم من العربي.

 

قال في «زهر الأدب في مفاخر العرب»: الكفاءة عندنا معاشر الحنابلة معتبرة، وكذا عند الشافعية، وفي إحدى الروايتين عن مالك، ثم قال: ومن الجهل أن يعتقد أحد عدم التفاضل، والتفاضل واقع في أنواع الموجودات، فضل الله السماء السابعة على سائر الموجودات، ومكة على باقي البلاد، وجبريل وميكائيل وإسرافيل على غيرهم من الملائكة. وروى الدارقطني عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء" وفي حديث رواه ابن ماجه والدارقطني عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) ثم قال: وقوله: " ليس لعربي فضل على عجمي "، " والمؤمنون تتكافأ دماؤهم " إنما المعنى في هذا كما قال ابن قتيبة أن الناس من المؤمنين كلهم سواء في الأحكام والمنزلة والكفاءة إنما هي في الدين والخلق.

(وتجدون خير الناس في هذا الشأن) الخلافة أو الإمارة (أشدهم له كراهية) يعني خيرهم دينا وعقلا يكره الدخول في تولي الإمارة لصعوبة لزوم العدل

وفي رواية (حتى يقع فيه) فإذا وقع فيه قام بحقه ولا يكرهه.

قال القاضي: يحتمل أن المراد به الإسلام كما كان من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وغيرهم من مسلمة الفتح وغيرهم ممن كان يكره الإسلام كراهية شديدة فلما دخل فيه أخلص وأحبه وجاهد فيه حق جهاده.

(وتجدون شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين) وفسره بأنه (الذي) يشبه المنافق (يأتي هؤلاء) القوم (بوجه ويأتي هؤلاء بوجه) فيكون عند ناس بكلام وعند أعدائهم بضده، مذبذبين بين ذلك، وذلك من السعي في الأرض بالفساد، لأنه نفاق محض وكذب وخداع، وتحيل على اطلاعه على أسرار الطائفتين وهو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها ويظهر لها أنه منها في خير أو شر وهي مداهنة محرمة.

وقد قال الله في شأن المنافقين: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]

وقال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول وكان الله بما يعملون محيطًا} هذه الآية نزلت في قوم يخفون في أنفسهم ما لا يبدونه، يحدثون الناس بما ليس في قلوبهم، فإذا صاروا في الوحدة واجتمعوا في الليل أظهروا ما في نفوسهم والعياذ بالله الذي كانوا أخفوه عن الناس من قبل.

ومثل ذلك أيضًا من يعمل المعصية خفاءًا ولا يعملها أمام الناس حياءً منهم وخجلًا، وأما الله فلا يستحي منه ولا يخجل والعياذ بالله، وهذا يدخل في الآية الكريمة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply