الإحسان والتقدم


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

في القرآن الكريم والسنة النبوية تلاحظ تكرار هذه الكلمات: أحسن، الإحسان، المحسنين.. وغيرها.. فما الإحسان، وما فضله؟ وما أهميته للفرد والمجتمع؟ وما علاقته بالتقدم؟

جاءت كلمة الإحسان ومشتقاتها في كثير من النصوص الشرعية، للحث على القيام بالعمل على أفضل وجه، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: 7]، قال الشنقيطي: (... إن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملاً، ولم يقل: أيهم أكثر عملاً، فالابتلاء في إحسان العمل)1.

 

الإحسان في الإيمان:

الإحسان هو أعلى درجات الإيمان، أو أفضل صور الإيمان، قال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً...﴾ [النساء: 125].

ومنزلة الإحسان أساسها استحضار العبد في العبادة أن الله تعالى يراه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك)، قال الشنقيطي: (سأل جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم... فقال: «أخبرني عن الإحسان»، أي... الذي خُلق الخلق لأجل الاختبار فيه، فبيّن النَّبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه)2.

 

الإحسان في العبادة والعمل:

الإحسان صفة مطلوبة في كل شيء، ومحمودة في كل عمل، قال تعالى: ﴿... وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].

وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله محسنٌ يحب الإحسان...)3، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)4، قال ابن رجب: (هذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه... والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب)5، وإليك بعض الأمثلة:

- الحث على الإحسان في الوضوء والصلاة: قال عليه الصلاة والسلام: (خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، مَن أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن؛ كان له على الله عهد أن يغفر له، ومَن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)6.

 

- الحث على الإحسان في الاستعداد لصلاة الجمعة: قال عليه الصلاة والسلام: (من اغتسل يوم الجمعة فأَحسَنَ الغسل، وتطهر فأَحسَنَ الطهور، ولبس من أحسِن ثيابه، ومسّ ما كتب الله له من طيب أو دُهن أهله، ثم أتى المسجد فلم يلغ ولم يفرق بين اثنين؛ غفَرَ الله له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)7.

 

- طلب الإحسان في دعوة الناس: أمر الله تعالى بالإحسان في الوعظ وفي الحوار والجدال، قال سبحانه: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) [النحل: 125].

 

- طلب الإحسان في رعاية مال اليتيم: وأمرنا بأن نحسن في رعاية مال اليتيم؛ بالتجارة فيه، وعدم تعريضه للأخطار، والحرص على تنميته، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ...﴾ [الأنعام: 152].

 

- طلب الإحسان في معاملة الناس: ومن ذلك الحث على التحية بأحسن مما حُيينا به، والإحسان مقدم على الرد بالمثل، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾ [النساء: 86].

وفي المقابل؛ ورد النهي عن إهمال الإحسان، ومن ذلك:

 

- النهي عن إخراج الصدقة من رديء المال، فقد ورد النهي في القرآن الكريم عن أن يخرج العبد أحقر أمواله للصدقة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُـواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [البقرة: 267].‌

 

الارتقاء إلى الأحسن:

المطلوب من العبد دوماً ترك السيئ، وأن يختار الأحسن على الحسن- قدر الإمكان، فالانتقام بالعدل حَسن لكن كظم الغيظ أحياناً يكون أحسن منه، والمطالبة بالدَّين الذي حل موعده حسن ولكن تأجيل طلبه من المعسر (غير المحتال) أحسن منه، واللهو في أوقات الفراغ مباح، وأحسن منه الذكر أو الصلاة أو الاشتغال بعمل صالح.

وقد يكون الأحسن واجباً إذا كان العمل المقابل معصية، فالزنا معصية وأحسن منه الزواج، والربا معصية وأحسن منه القرض الحسن أو العمل أو التجارة أو الاستثمار، وانظر إلى قوله تعالى وهو يحثنا على أن نتبع الأحسن: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ الزمر: 55]، قال القرطبي: ((واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) [الزمر: 55]، وقال: "فيتبعون أحسنه" [الزمر: 18]: والعفو أحسن من الاقتصاص، والصبر أحسن من الانتصار، وقيل: أحسنها: الفرائض والنوافل، وأدونها: المباح)8.

 

مثال عملي للإحسان:

وما دمنا نتكلم عن الأحسن؛ فأحسن الأمثلة العملية هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذ ما شئت من سننه صلى الله عليه وسلم وفيما شئت من الجوانب لتتعلم كيف يكون الإحسان، ومن الأمثلة المهمة في ذلك إحسانه صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس، قالَ أَنَس رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ خُلُقاً...»9.

 

بعض المعالم في طريق الإحسان:

كيف يتمكن المرء من الوصول إلى مستوى الإحسان في أعماله وعباداته وشؤون حياته؟

- استحضار العبد أن الله تعالى يراه: كما قال عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك).

- زيادة المعرفة بالكتاب والسنة: فزيادة المعرفة بتفسير القرآن الكريم، وبأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه في العبادة وفي الأعمال الصالحة وفي العمل ومعاملة الناس، تحفز الإنسان وتشجعه على تطوير نفسه، وتحسين عمله.

- معرفة الأولويات: فالعمل الأحسن هو الذي يكون مناسباً لوقته دوناً عن غيره، فمن المهم معرفة واجبات الوقت، ودرجات الأعمال الصالحة، حتى لا يشتغل المسلم بعمل هو حسن في نفسه، لكنه يعمله في غير وقته، أو يعمله على حساب عمل أوجب منه.

- مجاهدة النفس على تجويد العمل: فلا تكفي المعرفة لكي يترقى الإنسان في طريق النجاح، سواء في أعمال الدينا أو الآخرة، بل يلزم مع العلم القيام بالعمل، ومن ثم تحسينه، فلابد من مجاهدة النفس عليه، وتشجيع الذات على علو الهمة، وتذكير النفس بفضل الإحسان. 

- الاطلاع على النماذج البارزة في الإحسان: في الكتاب والسنة، وسير الصالحين، وعلماء المسلمين، في شتى المجالات، في الماضي والحاضر.  

- محاولة إتقان العمل: من صفات المحسنين الاجتهاد في إتقان العمل، بدءاً من العبادات، إلى أعمال الحياة العامة المصحوبة بنية العبادة والتقرب إلى الله تعالى، ويكون إتقان كل عمل بتعلمه وممارسته، والتدرج فيه حتى الوصول فيه لأحسن وجه، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)10.

 

فضل الإحسان في القرآن الكريم:

وردت نصوص كثيرة في فضل الإحسان وجزاء المحسنين وعلو منزلتهم، فالإحسان في الإيمان والعمل سبب لنيل محبة الله تعالى: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134]، والإحسان سبب لقرب رحمة الله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، وعن أجر المحسنين في الآخرة قال تعالى: ﴿آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ [الذاريات: 16].

 

فضل الإحسان في السنة:

ومما ورد في السنة النبوية في فضل الإحسان أنه من أسباب زيادة الأجر، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحسن أحدكم إسلامه؛ فكل حسنة يعملها يُكتب له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها يُكتب له مثلها حتى يلقى الله)11، وإحسان معاملة الناس سبب للقرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إليّ وأقربكم مني في الآخرة مجالس: أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقاً: الثرثارون المتفيهقون المتشدقون)12.

 

خطر الإهمال في الإحسان:

على مستوى الفرد؛ من الناس من يقصر كثيراً في محاولة الارتقاء لمستوى الإحسان في الإيمان والعمل، وهذا قد يؤدي إلى العكس فبدلاً من السعي للإحسان في حياته؛ يكون متجهاً نحو أسوأ العمل، فتكون صلاته مثلاً لا خشوع فيها، أو صيامه مليء بمنكرات الأخلاق والأعمال، أو معاملته لجيرانه تكون أسوأ معاملة، أو تجارته واستثماراته تقوم على الغش والفساد، وعمله يقوم على الاحتيال أو الإهمال.

أو تنفصل دنياه عن دينه، فيحسّن عمل الدنيا ولا يحسّن عمل الآخرة، فهناك مثلاً من يبذل الكثير من الجهد في الاستعداد لمقابلة أو موعد امتحان في حين يهمل في المحافظة على وقت الصلاة، ويجتهد بعض الناس في تعلم لغة أجنبية وإتقانها في حين يتهاون في تعلم الضروري من أحكام تلاوة القرآن الكريم، فضلاً عن الضروري من أحكام الإسلام وأخلاقه!

وعلى مستوى المجتمع؛ تبقى العديد من المؤسسات، وغيرها، في كثير من مجتمعات المسلمين دون تجديد أو تطوير لعشرات السنين، لأسباب كثيرة، منها سوء الإدارة أو الإهمال والاستهتار.

وهذه المظاهر من المهم أن نسعى إلى تغييرها وعلاجها، حتى لا يضيع كثير من ثواب العمل على مستوى الفرد، وحتى لا تشيع آفة الإهمال والاستهتار ويزيد التخلف على مستوى المجتمع، وطريق العلاج يبدأ بتنمية الوازع الديني المتمثل في تقوى الله وصولاً إلى الإحسان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك).

 

خير أمة ينبغي لها أن تكون أحسن عملاً:

لقد جعل الله عز وجل هذه الأمة خير الأمم، بما آتاها الله تعالى من الإيمان ونور الوحي، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يليق بأمة وضعها الله تعالى في هذه المكانة والمنزلة، وأعطاها أحسن الشرائع والأخلاق والمناهج، أن تكون متخلفة عن غيرها من الأمم.

إن الإحسان، الذي يبدأ من سعي المسلم إلى الارتقاء بإيمانه وعباداته لمنزلة المراقبة، ويتوسع إلى الاجتهاد في إتقان العلم والعمل، في الدين والدنيا معاً، هو التقدم الذي يليق بالشعوب الإسلامية أن تحققه.

لقد كان المسلمون في القرون الأولى عموماً يتميزون بالإحسان وعلو الهمة وإتقان العمل والنشاط، في العلم والعبادة والعمل، وتفوقوا في علوم الدين وعلوم الدنيا، وفي ذلك تقرأ العجائب عنهم، لذلك تطورت الحضارة الإسلامية بسرعة في عصورهم، وما وقع تخلف في الأمة إلا وكان من أسبابه ترك الإحسان في الإيمان والعلم والعمل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


1 أضواء البيان تفسير سورة هود، آية رقم 7.  

2 المصدر السابق.

3 في صحيح الجامع، رقم: 1824.

4 أخرجه أحمد ومسلم.

5 جامع العلوم والحكم، لابن رجب، شرح الحديث 17.

6 صحيح الجامع، رقم: 3242.

7 صحيح الجامع، رقم: 6064.

8 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، تفسير سورة الأعراف، آية رقم 145.

9 صحيح الجامع، رقم: 4632.

10 أخرجه أبو يعلى والطبراني، وقد صححه الألباني في الصحيحة.

11 متفق عليه، وصحيح الجامع، رقم: 287.

12 صحيح الجامع، رقم: 1535.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply