تسلية المحزون


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فالدنيا ليست دار أفراح دائمًا، بل فيها ما يفرح، وفيها ما يحزن، والحزن العارض الذي يحدث بسبب وجود أمر محزن، كفقد عزيز، لا لوم على الإنسان فيه، والإنسان قد يحزن ليس لفقد عزيز، بل قد يحزن لخوف فقده؛ قال الله عز وجل عن يعقوب: ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ﴾ [يوسف: 13]؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: أخبر عن حزنه لغيبته، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي: يشق عليَّ مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع، وذلك لفرط محبته لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وقال العلامة السعدي رحمه الله: أي: مجرد ذهابكم به يُحزنني، ويشق عليَّ؛ لأنني لا أقدر على فراقه ولو مدة يسيرة

والمحزون يُعرَف في وجهه الحزن؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ﴾ [العنكبوت:33]؛ قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ولما شاهدت الملائكة ما حلَّ به من الحزن والتضجر: ﴿ َقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَن ﴾.

وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لَما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتلُ ابن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، جلس يُعرف فيه الحزن؛ [أخرجه البخاري].

 

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد حديث موت الطائر الصغير لأبي النغير، وفيه: الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه من حزنه أو غيره... إذا استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين، فسأل أمه عن حزنه.

والحزن الدائم المستمر لها تأثير ضار على من يُصاب به؛ قال الله سبحانه وتعالى عن يعقوب عليه السلام: ﴿ وَتَوَلَّى عَنهُم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يوسُفَ وَابيَضَّت عَيناهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظيمٌ * قالوا تَاللَّـهِ تَفتَأُ تَذكُرُ يوسُفَ حَتّى تَكونَ حَرَضًا أَو تَكونَ مِنَ الهالِكينَ ﴾ [يوسف: 84-85]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ﴿ حَتّى تَكونَ حَرَضًا ﴾؛ أي ضعيف القوة، ﴿ أَو تَكونَ مِنَ الهالِكينَ ﴾: يقولون: إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف؛ وقال العلامة السعدي رحمه الله: ﴿ حَتَّى تَكونَ حَرَضًا ﴾؛ أي: فانيًا لا حراك فيه ولا قدرة على الكلام.

 ولذا حثَّ الإسلام على عدم الحزن، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الله عز وجل يحب من عباده ألا يَحزنوا، وقد وردت آيات في القرآن الكريم، تنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن بسب تكذيب قومه له، وتسليه، وتقوي روحه المعنوية؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّـهَ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 176]؛ قال العلامة الشوكاني رحمه الله: سلاه الله سبحانه، ونهاه عن الحزن، وعلَّل ذلك بأنهم لن يضروا الله شيئًا، وإنما ضروا أنفسهم بأن لا حظ لهم في الآخرة، ولهم عذاب عظيم، وقال الله عز وجل: ﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يونس: 65]؛ قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: هذه آية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى ولا يحزنك يا محمد ويهمك قولهم،

 

وقال الإمام الشوكاني: قوله: ﴿ وَلا يَحزُنكَ قَولُهُم ﴾: نهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن للطعن فيه وتكذيبه والقدح في دينه، والمقصود التسلية له والتبشير، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33]؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مسليًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه، وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: هذه لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ناله من الغمِّ والحزن بتكذيب الكفار له، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الآية: تسلية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقوية روحه المعنوية، فإذا ذكر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يُسليه ويُقوِّي معنوياته، ويذهب عنه الحزن، فإن هذا من فضل الله عليه تبارك وتعالى.

 

والإسلام بأحكامه وتشريعاته يراعي إدخال السرور على المسلم، وبعده عن الأحزان، قال الله عز وجل: ﴿ تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ﴾ [الأحزاب:51]؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي مُراعاة المُؤمن بإدخال السرور عليه، وانتفاء الحزن عنه؛ لقوله تعالى: (وَلَا يَحْزَنَّ)؛ أي: لا يدخلهن الحزن والغم مما مضى، فمن وجد محزونًا وكان بإمكانه طمأنته، وتسكين روعه، فينبغي له فعل ذلك، قال جل وعلا: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]؛ قال العلامة العثيمين رحمه الله: ينبغي طمأنة المحزون ببشارته بمستقبله؛ لأنه يقول: ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾.

وقال الله جل جلاله: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ [مريم: 24]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: سكَّن الملك روعها، وثبَّت جأشها، وناداها من تحتها، لعله من مكان أنزَلَ من مكانها، وقال لها: لا تحزني، أي: لا تجزعي ولا تهتمي.

 

فينبغي تسلية المحزون، ومن الأعمال التي يمكن القيام بها الآتي:

تعزيته وتقويته:

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: حزنتُ على من أُصيبَ بالحرَّةِ، فكتب إليَّ زيدُ بن أرقم - وبلغه شدة حُزني - يذكرُ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار)؛ [متفق عليه]؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: كانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين، وسببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد بن معاوية، فأرسل إليهم يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش كبير فهزمهم، واستباحوا المدينة، وقتلوا من الأنصار شيئًا كثيرًا جدًّا، وكان أنس يومئذ بالبصرة، فبلغه ذلك فحزن على من أصيب من الأنصار، فكتب إليه زيد بن أرقم وكان يومئذ بالكوفة يسليه، ومحصل ذلك أن الذي يصير إلى مغفرة الله لا يشتد الحزن عليه، فكان ذلك تعزية لأنس فيهم.

 

عيادته وزيارته:

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: تفريج نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال ما يسُرُّه عليه، له تأثير عجيب في شفاء علته وخِفَّتها، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي، وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يُحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم لهم ولُطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم.

 

وعيادة المريض ليست مقصورة على من أُصيب بمرض بدني، بل يُعاد المحزون، فذلك مما يفرحه ويُسرُّه، ويعطيه قوة يقاوم بها الأمراض، وخاصة إذا كان هذا العائد حبيبًا

مَرِضَ الحبيبُ فعُدتُه 

فمرضتُ من حذري عليه 

فأتى الحبيبُ يعودني 

فشُفيتُ من نظري إليه 

أن يُحدِّث بما يُزيل همَّه ويُذهب حزنَه:

قال يعقوب بن بختان: ولد لي سبع بنات، فكنت كلما وُلد لي ابنة، دخلت على أحمد بن حنبل فيقول لي: يا أبا يوسف، الأنبياء آباء بناتٍ، فكان يُذهب قوله همِّي:

ولما مات طائر صغير لأخ أنس رضي الله عنه كان يلعب به، دخل النبي صلى الله عليه وسلم فرآه حزينًا، فقال: (ما شأنه؟)، قيل له: مات نغره، فقال: يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير)؛ [متفق عليه]، والنُّغير: طائر يشبه العصفور، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث عدة فوائد: مخاطبة من لا يُميز التحقيق فيه، جواز مواجهته بالخطاب إذا فهم الخطاب، وكان في ذلك فائدة ولو بالتأنيس له.

فرسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام لما رأى أن الصبي حزين على موت الطائر، أراد أن يؤانسه ويدخل السرور على قلبه، ويذهب عنه الحزن، فقال له على وجه المداعبة: (يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير).

وفي حادثة اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه شهرًا في مشربة له، دخل عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد أن أستأذن وأذن له الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال عمر للرسول: يا رسول الله، لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلبُ النساء، فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عمر: يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة، فقلتُ لها: لا يغُرنك أن كانت جارتك أوضأ منك، وأحبَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد عائشة، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسُّمةً أخرى؛ [متفق عليه]، وفي رواية: فقلت: أَستأنسُ يا رسول الله، قال: نعم.

 

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: وفي الحديث أن المرء إذا رأى صاحبه مهمومًا استحب له أن يحدثه بما يزيل همَّه، ويطيب نفسه.

ويرى الإمام النووي رحمه الله أنه ينبغي له أن يستأذنه قبل مؤانسته، قال رحمه الله: وفيه أن الإنسان إذا رأى صاحبه مهمومًا، وأراد إزالة همه، ومؤانسته بما يشرح صدره، ويكشف همه، ينبغي له أن يستأذنه في ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه: أَستأنسُ يا رسول الله، ولأنه قد يأتي من الكلام بما لا يوافق صاحبه، فيزيده همًّا، وربما أحرجه، وربما تكلم بما لا يرتضيه، وهذا من الآداب المهمة.

 

تهوين الأمر عليه بأنه ليس الوحيد في هذه المصيبة:

في حادثة الإفك قالت أم رومان لابنتها عائشة رضي الله عنها: يا بنية هوِّني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يُحبها، ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهذا الكلام من فطنة أمها وحُسن تأنِّيها في تربيتها بما لا مزيد عليه، فإنها علمت أن ذلك يَعظُم عليها، فهوَّنت عليها الأمر بإعلامها بأنها لم تنفرد بذلك؛ لأن المرء يتأسى بغيره فيما يقع له، وأدمجت في ذلك ما تُطيِّب به خاطرها من أنها فائقة في الجمال والحظوة، وذلك مما يعجب المرأة أن توصَف به.

والمسلم إن لم يسلِ إخوانه المسلمين في أحزانهم، فليحذر أن يدخل الأحزان عليهم، فإنه يكون بهذا الفعل شبيه بالشيطان، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الشيطان يسعى لكل ما يحزن بني آدم، كما قال تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا ﴾ [المجادلة: 10]، ولهذا كل من حاول إدخال الحزن على أخيه المسلم، فإنه شبيه بالشيطان الذي يريد إدخال الأحزان على المؤمنين.

 

وفي الختام فمما يوصى به المحزون: أن يتحدث إلى أحد يرتاح إليه بما يحزنه، فذلك يخفِّف عنه، قال العلامة العثيمين رحمه الله: المعروف أن الإنسان إذا حزن بشيءٍ، فإنه مما يخفف من آلام الحزن على نفسه أن يتحدث به إلى أحد من الناس ممن يتصل به، ولذلك تجد الإنسان يضيق صدره بالشيء حتى يُحدِّث به، وهذا الشيء معلوم.

ويقول الطبيب النفسي محمد عبدالفتاح المهدي: مجرد إفضاء الإنسان بمشكلاته وهمومه، والتعبير عنها إلى شخص آخر يسبِّب له راحة نفسية، ومن المعروف بين المعالجين النفسيين أن تذكر المريض النفسي لمشكلاته، وتحدثه عنها يؤدي إلى تخفيف حِدَّة قلقه.

اللهم اجعل القرآن الكريم نور صدورنا، وربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply