أصفاد حريريّة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

صحّ عند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر" [1]

هذا الحديث سلوان؛ فالمؤمن مقيّد بأوامر الله، لا يُقدم على الشيء بمجرد إتاحته، بل يضع حسبانًا للعواقب؛ كشأن السجين.

ثم هو يرى غيره من نافذة سجنه/دنياه يتنعمون في أنظارهم وأبصارهم وملابسهم ومطعمهم ومشربهم؛ وهو يمنّي نفسه بالعوض الجميل عند خروجه من سجنه إلى مستقر الرحمات في الآخرة.

يسير مثقلًا؛ قدماه المقيدتان بالتكاليف لا تسمح له بالركض في ميدان الشهوات.

يعتريه ما يعتري السجين من الاغتراب والوحشة بين الحين والآخر، حتى ولو كان السجن جماعيًا فللحبس وحشته، يعود لنفسه فلا يجد في دفء من حوله ما يهدئ رجفة قلبه؛ هكذا هو المؤمن؛ مشتاق لوطنه الأصلي في جنات النعيم مهما تزينت زنزانته؛ فهو وإن تنعم بمباحات دنياه في سجن مقارنة بما أعده الله له تحت ظل طوبى مستراح العابدين؛ هناك في الجنة. [2]

الثبات في ظل نافذة ترى بها أفراح المتنعمين في جنتهم من الكفار يفتت القلوب؛ لكنه يستحق، اثبتوا رحمكم الله.

هنا الدنيا؛ حيث الأمنيات المنقوصة، ومفاجآت البلاء عند وهم الاستقرار، هنا نضحك وقبل أن نتمّه تدركنا الغصص؛ هنا السجن، والإفراج يوم تطير الأرواح لمستقرها.

اللهم آنس وحشتنا، وارحم في هذه الدنيا غربتنا، وثبت أقدامنا حين تهفو النفوس لما مُنعنا منه، واجمعنا برفاق الزنازين -من المؤمنين الذي آنسونا- في الجنة الحقيقية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 [1] رواه مسلم 2956

[2] وللإمام ابن القيم ذوق حسن في شرح هذا الحديث فقد تحدث عنه في بدائع الفوائد (3/177)، وعدة الصابرين ص248، وشفاء العليل ص107 وغيرها.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply