الابتلاء اختبار من الله عز وجل لعباده


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

مما لا ريب فيه أن الله، سبحانه وتعالى، أوجد الخلائق من العدم ليبلوهم، أي يختبرهم أيهم أحسن عملاً، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.

فالابتلاء سنة ماضية، جعله الله تعالى تذكيرا للخلق بحقارة الدنيا، وأنها دار ممرٍّ، لا دار مقرٍّ، فالله سبحانه وتعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء وبالشدة والرخاء، وقد يبتليهم بها لرفع درجاتهم وإعلاء ذكرهم ومضاعفة حسناتهم كما يفعل بالأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- والصلحاء من عباد الله، فعن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: سئل النبي، صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: “الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثل، يُبتلَى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ صلابةً، وإن كان في دينه رقَّةٌ خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما له خطيئة” (أخرجه أحمد في مسنده رقم: 1494).

فقد يكون البلاء لرفع الدرجات وإعظام الأجور كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار، وقد يكون لتكفير السيئات كما في قوله تعالى: }مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ{ (النساء:123)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أصاب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه” ( متفق عليه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يصب منه” (أخرجه البخاري)، وقد يكون ذلك عقوبة معجلة بسبب المعاصي وعدم المبادرة للتوبة كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة” (أخرجه الترمذي وحسنه) (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز،4/ 371).

قال ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد:” والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء، والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقَّاه وصفَّاه أَهلهُ لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه” (زاد المعاد 4/179).

 

وهذا الابتلاء من الله سبحانه وتعالى قد يحقق للعبد أمورا قد لا يصيبها وهو في تمام عافيته منها على سبيل الذكر لا الحصر:

أولًا: الابتلاء يحقق الصبر والرضا بقضاء الله:

قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 156، 157)، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له] (أخرجه مسلم برقم: 2999).

 

فكُلُّ إِنسانٍ؛ في قَضاءِ اللهِ وقَدَرِه بَينَ أَمرينِ: مُؤمنٍ وغَيرِ مُؤمنٍ، فالمُؤمنُ عَلى كُلِّ حالٍ ما قدَّرَ اللهُ له فهُو خيرٌ لَه، إنْ أَصابتْه الضَّراءُ صَبرَ عَلى أَقدارِ اللهِ، وانْتَظَر الفَرجَ مِن اللهِ، واحْتَسبَ الأَجرَ عَلى اللهِ؛ فَكان ذَلكَ خَيرًا له.

وإِن أَصابتْه سَرَّاءُ مِن نِعمةٍ دِينيَّةٍ؛ كالعِلمِ والعَملِ الصَّالحِ، ونِعمةٍ دُنيويَّةٍ؛ كالمالِ والبَنينَ والأَهلِ، شَكَرَ اللهَ، وَذَلك بالقِيامِ بطاعَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فيَشكُرُ اللهَ فَيكونُ خيرًا لَه، ويَكونُ عَليه نِعمتانِ: نِعمةِ الدِّينِ، ونِعمةِ الدُّنيا؛ نِعمةُ الدِّينِ بالشُّكرِ، ونِعمَةُ الدُّنيا بالسَّرَّاءِ؛ فهَذه حالُ المؤمنِ، فهُو عَلى خَيرٍ، سَواءٌ أُصيبَ بضَرَّاءَ أو سَرَّاءَ. (موقع الدرر السنية على الشبكة العنكبوتية – الموسوعة الحديثية)

 

وقال سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-: “عند المصيبة ثلاثة أمور: الصبر وهو واجب، والرضا سنة، والشكر أفضل” (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة13/413).

 

ثانيًا: الابتلاء والأمراض مكفرات للذنوب:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة” (صححه الألباني في “السلسلة الصحيحة رقم: 2280)، وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (صححه الألباني في “السلسلة الصحيحة رقم: 1220).

 

ثالثًا: حصول الأجر ورفعة الدرجات:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً” (أخرجه مسلم رقم: 2572)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى” (صححه الألباني في صحيح أبي داود رقم: 3090).

 

رابعًا: تحقيق العبودية لله رب العالمين:

قال تعالى: ”وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ” (الحج: 11)، قال بعض المفسرين “على حرف ” أي على شك بغير ثقة وقال البعض منهم “على حرف” أي على شرط، يريد أن يقدم العبادة لله تعالى بعيدا عن الاختبارات والابتلاءات على شرط النفع الدائم والكسب الدائم وإلا انقلب، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ضرب لنا المثل العبادي الأعلى في جميع أحواله فكان إذا حل به الخير قال الحمد لله، وإن نزل به البلاء قال الحمد لله على كل حال، فهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان يعبد ربه في السراء والضراء فيقدم الحمد في تلك الحالتين.

 

خامسًا: الابتلاء إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض

قيل للإمام الشافعي رحمه الله: أَيّهما أَفضل: الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين؟ فقال: التَّمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتحن صبر، وإذا صبر مكن.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply