وجاء المطر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عِبَاد اللَّه انحبس الماء، وهَلك الزرع، وجَفَّ الضـرع، وأَجدبت الأرض وعمَّ الجدب وانتشـر القحط، هَزلت البهائم، ثُمَّ هلكت الدواب، ملَّت الإبل من مباركها، وسئِمت الغنم من مرابضها، وضاقت الأرض عَلَىٰ أهلها، واشتاق الناس إِلَىٰ المطر، وأصبحوا ينظرون إِلَىٰ السماء.

 فإذا هي صافيةٌ لا قزع فيها، وينظرون إِلَىٰ الارض، فإذا هي هامدةٌ لا حياة فيها، فيزيد الهم ويشتد الكرب وبين الناس كذلك في هٰذَا الأمر الشديد، والحال العصيب، فإذا بالشمس تنحجب، وإذا بالسحاب ينسحب، وإذا بالريح تستدير، وإذا بالأرض تستثير، وإذا بالمُزن قد غطَّى الأفق بلحظة، وإذا بالبرق يُبشـَّر بومضه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28].

_ جاء المطر، جاء المطر ليُذَّكرنا الإلهية والسنن الربانية والآيات الإيمانية، جاء المطر ليقول: إن بعد العسـر يسرًا، وإن بعد الشدة فرجًا، وإن بعد الضيق مخرجًا، مهما طال البلاء، ومهما زاد العناء فإن رَحِمَة اللَّهُ سوف تنزل عَلَىٰ عباده كما نزل المطر، من غير مقدماتٍ أو إرهاصاتٍ بل بقدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، سينزل الشفاء عَلَىٰ المريض بِإِذْنِ اللهِ، وسيزول الدين برحمة الله، وسينزل الفكاك عَلَىٰ الأسير بِإِذْنِ اللهِ، وسينزل النَّصّـر عَلَىٰ المظلوم بِإِذْنِ اللهِ، سينزل الفرج كما نزل المطر، وسيزول الهم كما زال القحط، ولكنكم قومٌ تستعجلون، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: 57] فاستبشروا برحمته يا عباد الله، ولا تقنطوا من فضله.

_ جاء المطر ليُذكرنا أن الرزق بيد الله، وأن العطاء من الله يُعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، ارتوت بلادٌ فأغصبت، وأقحطت بلادٌ فأجدبت، فمن صرف المطر بين العباد هو الَّذِي يُصرف الأرزاق بين العباد؛ ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الفرقان: 50].

فلا تحملوا همَّ الرزق، ولا عناء المعيشة؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58]، ولا تقتلوا أنفسكم كمدًا وحسدًا عَلَىٰ ما أنعم الله به عَلَىٰ بعض عباده ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [العنكبوت: 62]، فسبحانه وزع المطر بحكمته وعدله، ووزع الأرزاق بين عباده بحكمه وفضله، لا مُعطي لما منع، ولا مانع لما أعطى.

جاء المطر ليُذكرنا أنه جندٌ من الله، إن شاء جعله الله سقيا رحمةٍ وخير، وإن شاء جعله سقيا عذابٍ وغضبٍ وهدم، فبالمطر أهلك الله أقوامًا، وبالمطر أحيا الله أقوامًا، أرأيتم قوم نوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كيف أهلكهم الله بمطر من عنده؟ ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ 11 وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [القمر: 11، 12].

أرأيتم قوم يوسف عَلَيْهِ السَّلَامُ كيف أنجاهم الله بمطرٍ من عنده: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 49]، جاء المطر ليُقوي عزائم الصادقين المؤمنين، ويشد من أزرهم، ويُقوي من عزائمهم، فقد خرج أولئك النفر قبل أيامٍ قليلة يُؤدون صلاة الاستسقاء يأخذهم الإيمان بربهم، وتقودهم الثقة بخالقهم.

خرجوا استجابةً لأمر الله، وطمعًا في موعود الله، وإقامةً لشعيرةٍ من شعائر الله، وإحياءً لسنةٍ من سنن رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بإيمانٍ راسخ ويقينٍ ثابت بأنه لا يُنزل الغيث إِلَّا الله، ولا يكشف الكرب إِلَّا الله، لم يستمعوا إِلَىٰ أقوال المرجفين المشككين، ولم يلتفتوا إِلَىٰ الكسالى النائمين، ولم ينظروا إِلَىٰ أحوال البائسين اليائس.

توجهوا إِلَىٰ قبلتهم ورفعوا أيديهم وقلبوا أرضيتهم، وناجوا ربهم، وربهم يقول: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ [آل عمران: 174] قد أُجيبت الدعوات، وانكشفت الكربات، أقاموا فرض الكفاية عن الأُمَّة، فأزال الله بهم الكربة، وكشف الله بهم الغمة.

جاء المطر ليمتحن الشكر في قلوب الناس بعد أن أذاقهم الله من فضله ورحمته، فليس شكر الله تَعَالَىٰ عَلَىٰ نعمة المطر بالتصاوير اللاهية، أو الأغاني الماجنة، وليس الشكر عَلَىٰ نعمة المطر في إهمال الصلوات في الرحلات والمخيمات، وليس الشكر عَلَىٰ نعمة المطر في التفحيط بالسيارات والإسراف في المأكولات مشروبات، فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الشاكرين: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، واعلموا أَيُّهَا المؤمنون أن نزول المطر ليس دليلاً عَلَىٰ رضا الله عن خلقه، فقد يُسقى الناس بدعوة رجلٍ صالح أو بدعوة صبيٍ لم يقترف ذنبًا، أو بضعف دابةٍ أو بهيمة، فالزموا التضرع والتوبة والاستغفار، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا 10 يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا 11 وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا 12﴾ [نوح: 10- 12].

جاء المطر ليُذكرنا بأمرٍ عظيم وخطبٍ جليل ألا وهو آيةٌ من آيات الله عَزَّ وَجَلَّ الباهرة، إن إحياء الأرض بعد موتها لهي من أعظم الله العظيمة الَّتِي تدل عَلَىٰ قدرته عَلَىٰ بعث الناس وإحيائهم بعد موتهم، ومحاسبتهم عَلَىٰ أعمالهم، تأملوا هٰذَا المشهد العظيم؛ الأرض هامدة، هامدةٌ قاحلة، لا لون ولا طعم ولا رائحة.

وما هي إِلَّا أيامٌ قليلة، فإذا هي تتلون بألوان الزروع والنباتات المختلفة، وتفوح بأنواع الروائح الزكية، وتُطعم من ثمارها وخيراتها، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: 39].

لئن كانت هٰذِه الآية من أعظم آيات الله، فإن هناك ما هو أعظم منها؛ وهو إحياء النفوس بآيات القرآن، ومواعظ الفرقان، فكم من نفوسٍ قاحلة وأرواح هامدة، وأجسام خاوية تنتظر سحب القرآن وهتان الإيمان؟ فاسقوا أنفسكم عباد الله بالعلم النافع، وَالتَّفَقُّه بكتاب الله، وسنة نبيكم صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تُهلكوا أنفسكم ببراثن الجهل والحيرة والضلال.

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد: 17].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply