فرح التائب بتوبته


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب، فمن أدرك محبوبه سُرَّ وفرِحَ، فطوبى لمن كان فرحه فرح طاعة وعبادة، يجد أثرها في الدنيا، ويرجو ثوابها في الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح) [متفق عليه] فالطاعات والعبادات لها لذة وفرحة، يعرفها من وجدها، قال أحد السلف: أهل القيام في ليلهم أشد فرحًا وسرورًا من أهل اللهو في لهوهم.

ومن الطاعات التي لها فرح ولذة: التوبة، فالتائب يفرح بتوبته، وقلبه يرقص فرحًا، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: التوبة توجبُ للتائب آثارًا عجيبةً...منها: أنَّ الله سبحانه يحبُّه ويفرحُ بتوبته أعظم فرح، وقد تقرر أن الجزاء من جنس العمل، فلا ينسي الفرحة التي يظفرُ بها عند التوبة النصوح.

وهاهنا فرحة أعظم من هذا كله، وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل إليه الملائكة فبشروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان وربٍّ غير غضبان، اخرجي راضية مرضية عنك} : يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضيةً * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي { [الفجر:27-30]ولكن هاهنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحاتٍ ومضض ومِحَن لا تثبتُ لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح، وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء.

 

فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، ومنها: فتح أبواب السماء له، ومنها: وصلاة ملائكة السماء عليها، وتشيع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح لها، ويصلي عليها أهلها، ويشيٍّعُها مقرَّبوها هكذا إلى السماء السابعة، فكيف يقدر فرحها وقد استؤذن لها على ربها ووليها وحبيبها، فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت ثم سمعته سبحانه وتعالى يقول اكتبوا كتابه في علِّين، ثم يُذهب به، فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعده الله له ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله، فيجدهم على أحسن حال، ويقدم عليهم بخير ما قدم به مسافر.

هذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد، بجلوسه في ظل العرش، وشُربه من الحوض، وأخذه كتابه بيمينه، وثقل ميزانه، وبياض وجهه، وإعطائه النور التام، والناس في الظلمة، وقطعه جسر جهنم بلا تعويق، وانتهائه إلى باب الجنة، وقد أُزلفت له في الموقف، وتلقى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه.

وبعد ذلك  فرح آخر لا يُقدَّر ولا يُعبَّر عنه، تتلاشي هذه الأفراح كلُّها عند، وإنما يكون لأهل السنة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم، وسلامه عليهم، وتكليمه إياهم ومحاضرته لهم.

إن الفرحة التي تحصل بالتوبة،_ كما يقول العلامة ابن القيم _ فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة. فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافًا مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.

 

فتدارك نفسك أخي بالتوبة يعينك على ذلك بعد توفيق الله أمور، منها :

* الرغبة الصادقة في التوبة .

* الدعاء والتضرع أن يتوب الله عليك.

* الابتعاد عن ما يعين على المعصية من أجهزة، ومن رفاق وخلان.

* الإكثار من قراءة القرآن والاستماع له، فالفضيل بن عياض رحمه الله أمضى شطرًا من حياته قبل توبته في إخافة الناس وقطع الطريق عليهم، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليًا يتلو: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) [الحديد:16] فلما سمعها قال: بلى يا رب! قد آن، فرجع، وتاب إلى الله وصار من الصالحين العباد.

* القراءة في قصص التائبين ففي قصصهم عبرة، يقول الإمام ابن قدامه المقدسي رحمه الله في مقدمة كتابه " التوابين " : هذا كتاب ذكرت فيه بعض أخبار التوابين تشويقًا إلى أخبارهم، وترغيبًا في أحوالهم، والاقتداء بهم.

إن لذة الفرح بالتوبة لا تقارن بفرح الظفر بالذنب، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: فوازن بين هذين الفرحين، وانظر ما يُعقبه فرحُ الظفر بالذنب من أنواع الأحزان والهموم والغموم والمصائب، فمن يشتري فرحة ساعة بغمِّ الأبد ؟ وانظر ما يُعقبُه فرحُ الظفر بالطاعة والتوبة النصوح من الانشراح الدائم والنعيم وطِيب العيش، ووازن بين هذا وهذا، ثم اختر ما يليق بك ويناسبك. وكلّ يعملُ على شاكلته.

 أسأل الله الكريم الرحيم أن يمن علينا جميعًا بالتوبة النصوح، فنقلع عن الذنب، ونندم عليه، ونعزم على عدم العودة عليه.

 

تنبيه: نحن على أبواب شهر رمضان شهر الطاعة والرضوان، وفتح أبواب الجنان، وأغلاق أبواب النيران، شهر صفدت فيه الشياطين وسلسلت، حتى تقبل النفوس على الطاعة وتجتنب المعصية، نحتاج أن نجاهد أنفسنا على التوبة والإنابة إلى الله، وإنها لفرصة عظيمة، قد لا تتكرر مرة أخرى، ولو كان الإنسان في مقتبل عمره وريعان شبابه، فالموت لا يعرف عمرًا ولا سنًا، ومن نظر إلى المقابر وجد القبور الصغيرة جدًا التي لا تتجاوز الذراع للمواليد والرضع، ووجد أكبر منها للأطفال والصبيان.
                                                           وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply