اقتراب الأجل وانقضاء العمر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الموت نهاية كل حي، قال الله عز وجل: (كل نفس ذائقة الموت) [آل عمران:185] والإنسان لا يعلم متي يموت، وأين يموت، قال الله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت)  [لقمان:34] ويخصُّ الله عز وجل من شاء من عباده، فينبهم إلى دنو أجلهم، وقُربِ موتهم، كما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أول ما أُعلم النبي صلى الله عليه وسلم من انقضاء عُمُره باقتراب أجله بنزول سورة: (إذا جاء نصر الله والفتح)  [النصر:1] فإن المراد من هذه السورة أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا، فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أُمرت به من أداء الرسالة والتبليغ وما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا"

وعن مسروق عن عائشة عن فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، قالت: أسرَّ إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقران كلّ سنةٍ، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي.[متفق عليه] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا أراه إلا حضر أجلي) وذلك لأنه لما عارضه مرتين خلاف العادة، فكأنه عليه الصلاة والسلام فهم أن هذه آخر سنة كالمُودِّع له، ومن فوائد الحديث: فراسة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (إن جبريل كان يعارضني بالقران كلّ سنةٍ مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أُراهُ إلا حضر أجلي) وكان الأمر كذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تُوفي قبل تمام السنة.

وقد حج صلى الله عليه وسلم، وقال للناس: (خذوا عنِّي مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) [أخرجه مسلم] فقال الصحابة رضي الله عنهم: هذه حجة الوداع، ثم رجع إلى المدينة وقبل وصولها إليها وقال: (أيها الناس إنما أنا بشر يُوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبُ) [أخرجه مسلم] وبعد وصوله إلى المدينة لبت قليلًا ثم توفي صلى الله عليه وسلم.

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى قتلى أحد، فصلى عليهم بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات.[متفق عليه]

وبعض الناس قد  يشعر بدنو أجله، ومن النذر على اقتراب الأجل وانقضاء العمر، ما يلي:

* الإصابة بالأمراض الفتاكة، كالطواعين، ولو كان الإنسان شابًا، فقد ذكر في سيرة الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه أُصيب بالطاعون الذي وقع في الشام، وهو ابن ثلاث وثلاثون سنة، وشعر بقرب موته، فأخبر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،  فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل، قال: (يا معاذ!) قال: لبيك رسول الله وسعديك! قال: لبيك رسول الله وسعديك! قال: (يا معاذ) قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار) قال: يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا ؟ قال: (إذا يتكلوا) فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا.[متفق عليه]قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: وفي الحديث من الفوائد: فهم الصحابة: فإن معاذ بن جبل رضي الله عنه، لما خاف الموت، ورأى أن أجله قد قرُب أخبر به.

* التقدم في العمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعمار أُمَّتي ما بين الستين والسبعين، وأقلُّهم من يجوز ذلك) [ أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب حسن] وقال عليه الصلاة والسلام: (أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة) [أخرجه البخاري]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والمعنى أنه لم يَبْقَ له اعتذار، وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنَّة لانقضاء الأجل.

* ضعف البدن والقوى، قال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: لقد كبرت سنِّي، ورقَّ عظمي، واقترب أجلي [أخرجه مسلم]

وقال الإمام الذهبي في كتابه الجيد النافع "سير أعلام النبلاء" في ترجمة عبدالله بن أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعًا عن مسند الإمام أحمد: لم يحرر ترتيب المسند،...فلعل الله يقيض لهذا الديوان العظيم من يرتبه ويهذبه ويحذف ما كرر فيه...ولولا أني قد عجزت عن ذلك لضعف البصر، وعدم النية، وقرب الرحيل لعملت في ذلك

والحافظ أحمد بن علي بن محمد ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852هـ) أُصيب بمرض وعمره (79) سنة، وأصبح ضعيف الحركة، وكان إذا أُخبر بما يدلُّ على صحته، يقول: أما أنا فلا أراني إلا في تناقص، وما أظنّ الأجل إلا قد قرب، ثم ينشد

ثاء الثلاثين مني أوهنت بدني        فكيف حالي بعد ثاء الثمانيا

توفي رحمه في عامه الذي مرض فيه، تغمده الله بواسع رحمته.


* موت الأقران وظهور الشيب، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه الجيد النافع: "لطائف المعارف": من لم يُنذره باقتراب أجله وحي، أنذره الشيب، وأنذره سلبُ الموت لأقرانه.

 

كفى مُؤذنًا باقتراب الأجل          شباب   تـولى وشـيب نـزل

وموت اللذات وهل بعدهُ            بقاء    يُــؤمـلــهُ مـن  عـقـل


* الرؤيا، فقد خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر، وقال: رأيت رؤيا لا أراها إلا حضور أجلي، رأيت كأن ديكًا نقرني ثلاث نقرات، وإني لأراه إلا حضور أجلي.[أخرجه مسلم] وعند أحمد في المسند، فقصصتها على أسماء بنت عُميس، امرأة أبي بكر رضي الله عنهما، فقالت: يقتلك رجل من العجم.

وعند أبي شيبة في المصنف، فلم يلبث إلا ثلاثًا حتى قتله عبدالمغيرة أبو لؤلؤة.

وعن جابر رضي الله عنه، قال: لما حضر أُحد دعاني أبي من الليل، فقال: ما أُراني إلا مقتولًا في أول من يُقتلُ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أتركُ بعدي أعزَّ عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عليَّ دينًا فاقضِ، واستوصِ بأخواتكَ خيرًا، فأصبحنا، فكان أول قتيل.[الحديث أخرجه البخاري] قال سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: علم عبدالله بن عمرو بن حزام رضي الله عنه أنه سيُقتل، لأنه رأى رؤيا دلَّته على أنه مقتول مع من يقتل، ولهذا أوصى ابنه جابرًا بما أوصى، رضي الله عنه وأرضاه.

وقال الشيخ محمد بن ناصر بن عبدالعزيز الشثري عن جده الشيخ عبدالعزيز (أبو حبيب) رحمه الله: نجد من المناسب قبل الحديث عن وفاته التعرض لما حدث قبلها مما رآه رحمه الله...فقد رأى رحمه الله في المنام أن أناسًا من أصحابه الذين توفوا قبله قد أعطوه أوراقًا خضراء فأول ذلك بوفاته.

ثم تكررت الرؤيا عليه بأن أناسًا ممن توفوا قبله من أصحابه يدعونهم إليهم.

وكان رحمه الله قد أحسّ باقتراب أجله، فقد اشترى بيتًا...وقال: لن أسكن فيه، يشير بذلك إلى دنو أجله.

وكان رحمه الله قبل ذلك قد اشترى أغطية ولحفًا لأهله، وقال لأهله ممازحًا: حتى لا تقولوا مات ولم يشتر لنا أغطية ولحفًا.

وبعد حلول شهر رمضان سافر إلى مكة لأداء مناسك العمرة، وقد أحس بالمرض...ثم عاد إلى الرياض...وتوفي بتاريخ 17 رمضان عام 1387هـ

وعلم الإنسان بقرب أجله، قد يكون منحة له، وقد يكون محنة عليه، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: فإن قال قائل: وهل علم الإنسان بالعلامات على قرب أجله تدلُّ على فضله ؟

نقول: إن انتفع بذلك فهو منحة، وإن لم ينتفع فهو محنة، لأنه ليس كل من علم بقرب أجله تصلح حاله، بل ربما يعتريه من الجزع والتسخط ما يجعله يرتدُّ والعياذ بالله...لكن إذا وفق الإنسان وانتفع بهذا فهو من نعمة الله عليه"

ولذا فينبغي على الإنسان عندما يُحسُّ بدنو أجله، وقُرب موته، أن يتهيأ للرحيل، وذلك بالتوبة إلى الله، والاجتهاد في الطاعة، وكثرة الاستغفار، قال ابن عباس رضي الله عنه: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء نصر الله والفتح)  [النصر:1] نُعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسهُ، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة.


قال الشيخ محمد بن موسى الموسى مدير مكتب سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله: لقد لحظت على سماحة الشيخ في أيامه الأخيرة، ملحوظات عجيبة غريبة منها:

1-أنه منذ شهر رمضان كان كأنه يستعد لفراق الدنيا، حيث كان يكثر من ترداد كلمات معينة كقوله: الله يحسن لنا الختام، الله يتوب علينا، ويميتنا على الإسلام

2-أنه قد أوفى كل ما يتعلق بذمته.

3-أنه قد سامح كل من لديه حق لسماحته، من ديوان أو غير ذلك.

وختامًا فلا تغفل عن الموت، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:فعجبًا لمن يغفل عنه، مع أنه لا بدَّ له منه، والموجب للغفلة طول الأمل.

كلُّنا في   غفـلة   والمـوتُ  يـغـدو   ويـروحُ     

لبني  الدنيا  من  الموت  غبوق   وصـبوحُ

سيصير  المـرءُ  يومًا  جسدًا   ما فيـه روحُ

بين عيني  كُـلِّ  حيّ  علـمُ   المـوتِ  يلـوحُ

نُح على نفسك يا مسكينُ إن كنت تنوحُ

لتموتن    ولو عمـــرت   ما عُـــمر    نـوحُ

اللهم أحسن خاتمتنا، وتوفنا وأنت راضي عنا.
                                                         وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply