الأحكام المستنبطة من آيات الصيام


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فإن الله تعالى أنزل كتابه ليعمل به ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة معانيه، وفي هذا البحث جمع لما تيسر من أحكام آيات الصيام في سورة البقرة، ومن الله أستمد العون والتوفيق.

قوله تعالى:"ياأيها الذين آمنوا"

 من أحكام هذه الآية:

1- أن من شروط وجوب الصوم الإسلام وقد أجمع المسلمون على ذلك.، والتكليف؛ لأن غير المكلف غير مخاطبا بالأحكام، والمكلف هو البالغ العاقل. وأما الصبي الذي يطيق الصوم بعد بلوغه عشر سنين فإنه سؤمر به ويضرب على تركه ليعتاد على الصوم كما يؤمر بالصلاة، لا لأنه واجب عليه[1].

2- وأن من توفرت الشروط أثناء النهار فإنه يمسك ويقضي، ووجه إمساكه أنه مخاطب بهذه الآية فالشروط متوفرة والموانع منتفية، ووجه وجوب القضاء فلأنه لا يصح صوم جزء من النهار وقياسا على الحائض. قال ابن قدامة في المقنع:" وإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أثناء النهار أو بلغ صبي فكذلك- يعني لزمهم الإمساك والصوم- وعنه لا يلزمهم شيء" وذكر في الشرح الكبير أن المذهب الأول وفاقا لأبي حنيفة[2].

قوله تعالى:" كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" فيه أن الصوم فرض وركن من أركان الإسلام وهذا بالإجماع، فمن أنكر وجوبه فقد كذب بالقرآن والمكذب به كافر[3].

قوله تعالى " أياما معدودات"، فيها من الأحكام ما يلي:

 1- أن الصوم الشرعي يكون بالإمساك عن المفطرات في من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس- وهو اليوم عند الإطلاق كما في المفردات[4]. ومن ذلك يعلم أن الوصال غير مشروع، كما في حديث أيي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال. متفق عليه[5].

2-أنه إذا قامت البينة في أثناء النهار فإنه يلزم الإمساك لوجود الشروط وانتفاء الموانع، ويلزم القضاء لأنه لم يصم يوما كاملا، ومثله من زال عذره وسط النهار[6]، وعليه فتوى اللجنة الدائمة والشيخ ابن باز[7].

قوله تعالى:" فمن كان منكم مريضا" فيها من الأحكام ما يلي:

1- الرخصة للمريض أن يفطر وقد نقل القرطبي أن المريض له حالتين:

 الأولى: ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر وجوبا.

الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة فيستحب له الفطر. ونقل عن الجمهور أنه إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر[8].

وذكر الطبري رحمه الله أنه لا يعذر بالفطر إلا من كان الصوم جاهده جهدا غير محتمل وأما من كان الصوم غير جاهده فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم فعليه أداء فرضه[9].

2-وفيها أن المريض لو صام فقد فعل مكروها لإضراره بنفسه وتركه تخفيف الله تعالى[10].

قوله تعالى:" أو على سفر" قوله:"سفر" نكره في سياق الشرط فتعم كل ما يطلق عليه سفرا. وفي الآية من الأحكام ما يلي:

1- الرخصة لمن كان مسافرا أن يفطر ولو كان سفره سفر معصية- وهو مذهب أبي حنيفة والظاهرية ورجحه شيخ الإسلام [11].

2- وفيها أن كل ما أطلق عليه سفر فإنه مرخص للفطر وهو مذهب الظاهرية [12]، ورجحه شيخ الإسلام[13]، ونقلاه عن عدد من السلف. وذهب الأئمة الأربعة إلى تحديد السفر ولهم أدلة تراجع في المطولات.

3- وفيها أن من سافر أثناء النهار فإنه يباح له الفطر، وهذا هو المذهب عند الحنابلة وهو قول الظاهرية خلافا للجمهور[14].

4- وفيها أنه لا يفطر حتى يتحقق فيه وصف السفر بأن يخلف عامر البلد خلف ظهره [15].

5- وفي قوله تعالى:" على سفر" دليل على أن الرخصة لمن كان مسافرا في الطريق، او لمن يصل إلى بلد وهو لا ينوي الإقامة التي تخرجه عن حد السفر. أما من وصل إلى بلد غير بلده وعزم على البقاء فترة تخرجه عن حد السفر عرفا – فإنه لا يترخص برخص السفر[16]. وذلك لأن "على" تدل على الاستعلاء والاسقرار، ولقوله تعالى:" وإذا ضربتم في الأرض" ولقوله:" يوم ظعنكم ويوم إقامتكم"[17]، فالناس إما ظاعن مسفر وإما مقيم ولا ثالث لهما.

وقد حدد المالكية والشافعية أن الإقامة أقل من أربعة أيام لا تمنعه من الرخصة لحديث:" يقيم المهاجر بعد قضاء منسكه ثلاثا"[18]، وحده الحنابلة في المشهور عنهم إلى أنه إن أقام عشرين فرضا فإنه يترخص فإن زاد فرضا أتم واستدلوا بقصره صلى الله عليه وسلم في مكة وأنه أقام أربعة أيام، وحده الحنفية بخمسة عشر يوما. فالتحديد مذهب الجمهور[19].

6-وفيه أنه إن لم ينو إقامة ولم يعلم متى يذهب سواء غلب على ظنه قضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة، واحتمل انقضاؤها في المدة التي لا تقطع حكم السفر مما تقدم في المسألة السابقة؛ فإنه يترخص رخص السفر- وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وقول عند الشافعية[20].

قوله تعالى:"فعدة من أيام أخر" التقدير: فأفطر، كما في قوله تعالى:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية.."[21]، تقديره: فحلق ففدية. قال ابن العربي: وهو من لطيف الفصاحة[22].

1- فليس في الآية على هذا التأويل عدم صحة صوم المسافر لثبوت صومه صلى الله عليه وسلم في السفر. ولكن قد يكون فيها إيماء إلى استحباب الفطر لمن لا يشق عليه الصوم، فالفطر رخصة، وهو مذهب الحنابلة ورجحه شبخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واللجنة الدائمة والشيخ ابن باز[23].

 وذهب الأئمة الثلاثة إلى أ، الصوم أفضل لحديث أبي الدرداء رضي الله عنه وفيه:" وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدالله بن رواحة" متفق عليه، ولا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل[24]، ورجحه ابن عثيمين[25].

وذهب عمر بن عبدالعزيز وغيره إلى أن الأفضل الأيسر للمسافر لعموم أدلة التيسير[26].

2- وفيه دليل على عدم وجوب التتابع وإنما هو مستحب وهو قول الأئمة الأربعة، وأما ما أخرجه الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها اقلت: نزلت " فعد من أيام أخر متتابعات"، فسقطت[27]" متتابعات" قال الدارقطني" إسناده صحيح[28]. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم:" من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه"[29] فمحمولان على الاستحباب إن ثبتا[30].

3- وفيه دليل على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وثمة معذور لم يصم معهم فإنه يقضيه تسعة وعشرين يوما وهو قول الحمهور[31].

4- وفيه دليل لمن أجاز صوم النافلة قبل قضاء الفرض لقوله تعالى:" فعدة" وهي نكرة واقعة في جواب الشرط، وهو مذهب الحنفية ورواية عند الحنابلة[32].

5- وفيه دليل لمن لم يوجب الكفارة على من أخر القضاء لغير عذر إلى رمضان آخر، وهو مذهب الحنفية. وذهب الجمهور إلى لزوم الكفارة لثبوت ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة[33]. وقد قال يحي بن أكثم: لا أعلم لهم مخالفا[34]. ورجح البخاري قول الحنفية فقال: ولم يذكر الله الإطعام، إنما قال: فعدة من أيام أخر"[35].

6- وفيه أن القضاء دين على من ترخص فأفطر، فإن مات قبل القضاء فله ثلاث حالات:

الأولى: أن يموت قبل تمكنه من القضاء فلا شيء عليه ولا يلزم الورثة شيء.

الثانية: أن يموت مفرطا بأن تمكن من القضاء فلم يقض، فذهب الجمهور إلى أنه يطعم عنه من تركته ولا يصام عنه ورجحه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم[36]. وقال داوود وبعض الشافعية إلى أن الأولياء يخيرون بين الصوم والإطعام من تركته لعموم أحاديث القضاء[37]. وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: يشرع لبعض أقاربه أن يصوموا عنه[38].

قوله تعالى:" وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" ذهب الجمهور إلى أنها منسوخة وأن هذا كان في أول الإسلام، وهو قول سلمة بن الأكوع وابن عمر ومعاذ رضي الله عنهم. وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنها محكمة فيمن يستطيع الصوم بكلفة ومشقة كالكبير والمريض، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما:" يُطَوَّقونه" بمعنى يتكلفونه[39]. وعلى قراءته فإن في الآية:

1-    لزوم الفدية على من كان مريضا ولا يرجى برؤه أو كبيرا- وهو قول الجمهور، لهذه القراءة، وفعل أنس رضي الله عنه[40].

2-    ومثل الكبير: الحامل والمرضع إن خافتا على نفسيهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية:" كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا"[41]، ولم يذكر القضاء لأنه أمر معلوم.

3-    وفيها أن الفدية تكون طعاما فلا يجزئ غير الطعام[42].

4-    نقل القرطبي عن أبي عبيد أن قوله:" فدية طعام.." بينت أن لكل يوم طعام واحد[43]. وهذا مذهب الجمهور خلافا للحنفية[44]. وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ولا حرج أن تعطي الجميع واحدا من الفقراء أو بيتا فقيرا[45].

5-    وفي قوله:" طعام" استدل به من أجاز إطعام المساكين بطعام مطبوخ، وهو رواية عند الحنابلة، واستدلوا أيضا بفعل أنس رضي الله عنه. واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله[46].

6-    وفي قوله:" مسكين.." أنه لا يعطى إلا من أسكنته الحاجة، فلو أعطى غير محتاج عامدا لم يجزئه ذلك.

قوله تعالى:" فمن تطوع خيرا فهو خير له" فيه مشروعية الزيادة في الإطعام عن الواجب، قال ابن عباس رضي الله عنهما:" فمن تطوع خيرا.." قال: مسكينا آخر فهو خير له. رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح ثابت[47].

قوله تعالى:" وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" على قول من رجح إحكام الآية فإن فيها أنه يجوز للكبير والمريض الذي يشق عليه الصوم أن يصوم إذا لم يودِ به إلى الهلاك[48].

قوله تعالى:" شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" فيه إيماء إلى اختصاص هذا الشهر بالإكثار من قراءة القرآن، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة رضي الله عنهم من بعده.

قوله تعالى:" هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" فيه أن الدعوة بالقرآن أنجح وأعظم أثرا لوصفه بالهداية، قال علي رضي الله عنه:" ومن ابتغى الهدى بغيره أضله الله" رواه الترمذي، فهو كلام الله وخير الكلام كلام الله، وقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب بسورة "ق" وقد قال تعالى:" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله...".

قوله تعالى:" فمن شهد منكم الشهر فليصمه" فيه من الأحكام:

1- استدل بها الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في رواية أن من سافر أثناء النهار فإنه لا يباح له الفطر، لأنه شهد وقت الصوم فيدخل في قوله تعالى:" فليصمه". ومذهب الحنابلة إباحة الفطر لأن معنى الآية عندهم: من شهد اليوم كاملا بدلالة السنة وفعل الصحابة[49].

2- استدل الحنابلة بهذه الآية على أن من أفطر لعذر أول النهار ثم زال عذره فإنه يمسك وعليه القضاء وذلك في مسائل:

الأولى: إذا قامت البينة بالرؤية أثناء النهار – وهو قول عامة أهل العلم.

الثانية: كل من أفطر والصوم واجب عليه كالمفطر بلا عذر، ومن ظن غروب الشمس ولما تغب، ونحوهم فإنه يمسك بلا خلاف.

الثالثة: إن بلغ صبي أو أسلم كافر أو أفاق مجنون أو برئ مريض مفطرا- وهو أيضا مذهب أبي حنيفة خلافا لمذهب الشافعي، وكذلك إذا طهرت حائض أو نفساء أو قدم المسافر مفطرا[50].

3- استدل بقوله:" الشهر" أنه لا يصام إلا الشهر المعروف في اللغة وهو الشهر القمري ويكون إما تسعة وعشرين يوما وإما ثلاثين. وفي ذلك مسائل:

الأولى: إن صام الناس ثمانية وعشرين يوما بسبب غيم أو صام شخص برؤية بلد ثم سافر إلى بلد سبق البلد الأول في الرؤية فيلزمه أن يقضي يوما لأن الشهر لا يقل عن تسعة وعشرين يوما[51].

الثانية: أما إن صام الناس برؤية خاطئة ولم يروا هلال شوال ليلة الثلاثين، فإنهم يصومون لأنه تبين أن أول يوم صاموه هو تمام الثلاثين من شعبان.

4- وفيه استحباب ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان[52]، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عدَّ ثلاثين ثم صام"[53].

5-وفيه أنه لا يجب الصوم إلا إن دخل الشهر بيقين، وعيه؛ فيكره صيام يوم الشك، واختلف العلماء في تحديد يوم الشك على أقوال منها:

الأول: أنه اليوم المكمل للثلاثين من شعبان الذي تكون ليلته صحوا فإن لم يرَ الهلال فيها فإنه يكره الصوم على مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم، وقد قال عمار رضي الله عنه:" من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"[54].

الثاني:أنه اليوم المكمل للثلاثين من شعبان الذي تكون ليلته بها غيم أو قتر يحول دون رؤية الهلال، وفي هذه المسألة أقوال:

1.      وجوب الصوم احتياطا، لقوله صلى الله عليه وسلم: فإن غم عليكم فاقدروا له" والمعنى: ضيقوا له بأن يجعل الشهر تسعة وعشرين يوما، ولفعل ابن عمر رضي الله عنهما وهو راوي الحديث وأعلم بمعناه فيجب الرجوع إلى تفسيره[55]. وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد.

2.      تحريم الصوم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لحديث عمار وغيره في النهي عن يوم الشك. وإعمالا للأصل وهو بقاء شعبان. وللنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ولحديث:" فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"[56]، وأما رواية:" فاقدروا له " فتفسر بالروايات الأخرى.

3.      أنه يجوز صومه ويجوز فطره وهو مذهب أبي حنيفة، وهو قول شيخ الإسلام رحمه الله.[57]

4.      أنه يستحب صيامه قال في الفروع: ولكن الثابت عن أحمد أنه كان يستحب صيامه اتباعا لابن عمر وغيره من الصحابة الذين كانوا يصومونه ولا يأمرون الناس بصومه[58].

6- وفيه أن من شهد الشهر برؤية ثقة ممن دخل في الخطاب الأول بقوله:"يا أيها الذين آمنوا" فقد وجب عليه الصوم، لأن الخطاب للأمة كافة، فإذا رُأي الهلال في بلد لزم أهل البلاد الأخرى الصوم دون الاعتبار بالمطالع. وهو مذهب أحمد[59]. والقول الثاني اعتبار المطالع وهو قول لأصحاب أبي حنيفة وحدده الشافعي بقرب البلدان، وهو اختيار جمع من المحققين كابن عبدالبر والنووي وشيخ الإسلام وعلل بأن كل قوم مخاطبون بما عندهم كما في أوقات الصلاة، ولحديث كريب مع ابن عباس رضي الله عنهماوفيه أن أبا كريب قال: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم[60].

7- وفيه أنه لا اعتبار للحساب في الصوم إجماعا[61].

8- وفيه أن من رأى هلال رمضان وحده ولم يقبل قوله لزمه الصوم، لأنه شهد الشهر، وهو ظاهر مذهب الحنابلة، وقال شيخ الإسلام: شرط كونه هلالا وشهرا: شهرته بين الناس واستهلال الناس به، حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة أو لكونهم لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين، واستدل رحمه الله بحديث:" صومكم يوم تصومون" وقياسا على من رأى هلال النحر وحده فإنه لا يقف في المناسك لوحده بل حكمه حكم الناس، واستثنى رحمه الله من كان في مكان ليس فيه غيره، فإنه يصومه بمجرد رؤيته للهلال[62].

قوله تعالى:" ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" قال الشيخ السعدي رحمه الله:" أعاد الرخصة للمريض والمسافر لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة"[63]، وهذا التفسير على قول الجمهور بأن الآية الأولى منسوخة، وعلى قول ابن عباس رضي الله عنهما بأن الآية السابقة محكمة فإنها أعيدت للتأكيد.

قوله تعالى:"يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" فيه مشروعية اختيار الأيسر عند التخيير وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

قوله تعالى:" ولتكملوا العدة" فيه أن القضاء يحكي الأداء فإذا أفطر لعذر تسعة وعشرين يوما فإنه يقضيه تسعة وعشرين يوما.

قوله تعالى:"ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون" فيه من الأحكام ما يلي:

1- فيه مشروعية التكبير عند إكمال العدة بغروب شمس آخر يوم من رمضان.

2- وفيه أنه لو كبر الله بأي لفظ فإنه قد وافق السنة كما قال الإمام أحمد فيما نقله عنه القرطبي في تفسيره[64]. وقد ورد عن الصحابة صيغ للتكبير فمنها:

·         كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول:" الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبرولله الحمد" [65].

·         كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول:" الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبروأجل الله أكبرعلى ما هدانا"[66].

·         وكان سلمان الخير رضي الله عنه يقول:"كبروا الله الله أكبر الله أكبر الله أكبركبيرا"[67].

·         وورد عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما يكبران:" الله أكبر الله أكبرلا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبرولله الحمد" ورجحها الحنفية كما في المبسوط والشافعية كما في المجموع والحنابلة كما في المغني وشيخ الإسلام كما في الفتاوى[68].

3-وفيه مشروعية الذكر بعد انقضاء العبادة[69]، فمن ذلك:

·         قال الله تعالى عن الحج:" فإذ قضيتم مناسككم فاذكروا الله..."[70].

·         و قال الله تعالى عن صلاة الجمعة:" فإذا قضيتم الصلاة فانتسروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا"[71].

·         وقال ابن عباس رضي الله عنهما:" كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير".

قوله تعالى:" وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون".

فيه أن دعوة المؤمن مستجابة، وتتمثل صور الإجابة فيأمور ثلاثة كما قال صلى الله عليه وسلم:" ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها"[72].

وفيه إيماء إلى أن الدعاء في رمضان وفي حال الصيام أدعى للإجابة.

قوله تعالى:"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن.."

فيه الإذن بمباشرة الرجل لأهله ليلة الصيام وبدلالة المفهوم فإن فيه تحريم مباشرتها حال الصوم.

قوله تعالى:" وابتغوا ما كتب الله لكم"

1- فيه مشروعية النية الصالحة عند فعل المباحات، قال ابن سعدي رحمه الله:" انووا بمباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى، والمقصود الأعظم من الوطء وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته وحصول مقاصد النكاح"[73].

2- ومما كتبه الله لنا ليلة القدر، قال ابن القيم رحمه الله:" فكأنه سبحانه يقول: اقضوا وطركم من نسائكم ليلة الصيام ولا يشغلكم ذلك عن ابتغاء ما كتب لكم من هذه الليلة التي فضلكم بها والله أعلم"[74].

 

قوله تعالى:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل"

1- فيه التنبيه إلى رؤووس مسائل مفسدات الصوم وهي المباشرة والأكل والشرب وما في معناها.

2- وفيه النهي عن مقدمات النكاح، قال الزجاج:" الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته"[75]، وفي الحديث القدسي:" يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"، فكل ما يجلب الشهوة فيدخل في النهي. ورخص بعض أهل العلم للكبير الذي لا تحرك المباشرة شهوته مستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه. متفق عليه، وصح في السنن أن ابن عباس رضي الله عنهما نهى شابا عن القبلة حال الصوم وقد ورد عنه أنه قال:" رخص للكبير الصائم في المباشرة وكره للشاب"[76].

3- وفي قوله سبحانه:" حتى يتبين" قال السعدي رحمه الله:" فيه أنه إذا أكل شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه"[77].

4- و قال رحمه الله:" وفيه دليل على استحباب تأخير السحور أخذا بالرخصة".

5- وقال رحمه الله:" وفيه جواز أن يدركه الفجر وهو جنب لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر أن يدركه الفجر وهو جنب ولازم الحق حق".

قوله تعالى:" ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" فيه من الأحكام:

1- استثناء إباحة المباشة للمعتكف وأنه من محظورات الاعتكاف، قال ابن عبدالبر رحمه الله:" وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل"[78]. وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:" إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه"[79].

2- وفيه أن كل لزوم طويل عرفا للمسجد فإنه يسمى اعتكافا ولو ساعة، واختار الشافعي أن أقل الاعتكاف لحظة[80].

3- وفيه مشروعية الاعتكاف وأنه لا يكون إلا في مسجد، حكاه ابن عبدالبر إجماعا[81]. وأما المرأة فأجاز أبو حنيفة لها أن تعتكف في مسجد بيتها ومنعه الجمهور لعدم نقله عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من الصحابيات[82].

4- ويؤخذ من قوله تعالى:" عاكفون" كراهة صرف المعتكف وقته في غير عبادة في المسجد فيشتغل بالقراءة والذكر.

5- واستدل بعض العلماء بسياق مجيء الاعتكاف في آيات الصيام أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصيام، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ورجحه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. قال ابن القيم:" ولما كان المقصود إنما يتم مع الصوم، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرا قط بل قالت عائشة رضي الله عنها:" لا اعتكاف إلا بصوم"[83]، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم. فالقول الراجح الدليل الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه"[84]. ومذهب أحمد والشافعي صحته بلا صوم لحديث عمر وفيه أنه صام في الليل وليس الليل وقتا للصوم، ولثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال ولم ينقل أنه صام وقت اعتكافه، وأما حديث عائشة فصححوا وقفه وعلى فرض صحة رفعه فالمراد به الاستحباب[85].

قوله تعالى:" تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون".

فيه المنع من كل ما يوصل إلى الحرام، وتسمى هذه القاعدة عند الفقهاء: قاعدة سد الذرائع، قال الشيخ السعدي رحمه الله:" قوله:" فلا تقربوها" أبلغ من قوله:" فلا تفعلوها" لأن القربان يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه والنهي عن وسائله الموصلة إليه...ثم قال: وأما الأوامر فيقول فيها: " تلك حدود الله فلا تعتدوها" فينهى عن مجاوزتها"[86].

وفي الصوم نجد من الأحكام المترتبة على هذه القاعدة ما يلي:

1- قال ابن عباس رضي الله عنهما:" رخص للكبير الصائم في المباشرة وكره للشاب"[87]. ومثله كل ما يحرك الشهوة كتكرار النظر للتلذذ والمعانقة واللمس للشهوة[88]. وبعض العلماء يرى تحريم القبلة لمن تحرك شهوته وهو رواية عن أحمد وفاقا للشافعي ومالك[89].

2- قال صلى اله عليه وسلم:" وبالغ في الإستنشاق إلا أن تكون صائما"[90].

3- قال الإمام أحمد: أحب أن يجتنب ذوق الطعام فإن فعل فلا بأس[91].

والله أعلم
                                                         وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أهم المراجع:

 

الناشر

المحقق

المؤلف

الكتاب

 

 

د.صالح الحسن

أحكام التكبير

المكتبة الإسلامية

 

علي حسن عبدالحميد

أحكام العيدين

المكتب الإسلامي

 

ناصر الدين الألباني

إرواء الغليل

مكتبة الصحابة

 

عبدالله العبيلان

إمتاع أولي النظر في مدة قصر المقيم أثناء السفر

 

د. علي الرميخان

 

الأحكام والفتاوى الشرعية للمسائل الطبية

 

 

مصطفى العدوي

عبدالرحمن ابن قاسم

التسهيل لتأويل التنزيل

حاشية الروض المربع

مكيبة المعارف

 

صالح البليهي

السلسبيل

دار العاصمة

 

د.فيحان المطيري

الصوم والإفطار لأهل الأعذار

مؤسسة النور

 

علي الصالحي

الضوء المنير على التفسير

دار هجر

د. عبدالله التركي

ابن قدامة

المغني

دار هجر

د. عبدالله التركي

ابن قدامة

المقنع والشرح الكبير

دار السلام

 

ابن حجر

بلوغ المرام

دار طيبة

مجموعة من المحققين

البغوي

تفسير البغوي

دار السلام

 

ابن كثير

تفسير القرآن العظيم

دار الفكر

 

 

تفسير القرطبي

مؤسسة الرسالة

 

السعدي

تيسير الكريم الرحمن

الرسالة

عبدالقادر وشعيب الأرناؤوط

ابن القيم

زاد المعاد

دار الكتاب العربي

 

الصنعاني

سبل السلام

دار الثريا

 

ابن عثيمين

فتاوى أركان الإسلام

دار التأصيل

 

 

فتاوى ابن عقيل

رئاسة الإفتاء

د.محمد الشويعر

 

فتاوى الشيخ ابن باز

رئاسة الإفتاء

 

 

فتاوى اللجنة الدائمة

 

 

صديق حسن خان

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

 

 

 

 


[1] المقنع 7/357، والسلسبيل 1/324، والصوم والإفطار/127 وفتاوى الشيخ ابن باز 15/181.
 [2] المقنع 7/359.
 [3] الإجماع لابن المنذر/52 وموسوعة الإجماع/668 وحاشية الروض 3/344 عن الصوم والإفطار /13.
[4] المفردات /554.

 

[5] سبل السلام 2/317.

[6] السلسبيل 1/324.

[7] السلسبيل 1/323 وفتاوى اللجنة 10/210 وفتوى ابن باز 15/193.

[8] القرطبي 2/276.

[9] عن التسهيل 3/79. وحاشية الروض 3/374.

[10] المغني 3/147.

[11] مجموع الفتاوى 24/106.

[12] المحلى 5/9.

[13] مجموع الفتاوى 24/13.

[14] المغني 3/100 والمحلى 6/259 والصوم والإفطار /91-92.

[15] المغني 3/101.

[16] إمتاع أولي النظر/54.

[17] النحل /80.

[18] رواه البخاري في العمرة باب رقم (5) ومسلم(352).

[19] الصوم والإفطار /103-104.

[20] الصوم والإفطار.

[21] البقرة/ 196.

[22] أحكام القرآن 1/78، التسهيل 3/77.

[23] السلسبيل 1/326 وفتاوى اللجنة 1/200 وفتاوى الشيخ ابن باز 15/234.

[24] المجموع 6/219، الصوم والإفطار /78.

[25] فتاوى أركان الإسلام /263.

[26] المغني 3/150.

[27] تعني: نسخت

[28] سنن الدارقطني 2/192.

[29] رواه الدارقطني 2/191 والبيهقي 4/259 وفيه عبدالرحمن بن إبراهيم وثقه البخاري وأحمد وأبو زرعة وابن القطان وضعفه ابن معين والنسائي والدارقطني، وعد الذهبي في الميزان 2/545 هذا الحديث من مناكيره.

[30] الصوم والإفطار /176-181، وانظر المغني 3/88 والمجموع 6/367.

[31] القرطبي 2/281.

[32] حاشية الروض 3/437. الصوم والإفطار/ 172.

[33] الصوم والإفطار /172.

[34] حاشية الروض 3/438.

[35] نقله القرطبي 2/283،

[36] حاشية الروض 3/440-441.

[37] الصوم والإفطار /161-166.

[38] مجموع فتاوى الشيخ 15/365.

[39] الطبري أثر رقم( 2763) والبغوي(2/197).

[40] المقنع 7/364.

[41] رواه أبو داوود.

[42] الصوم والإفطار /208.

[43] القرطبي 2/287.

[44] المغني 13/513.

[45] مجموع فتاوى الشيخ 15/365.

[46] الصوم والإفطار /*205، وفتاوى أركان الإسلام/ 459.

[47] القرطبي 2/289-290.

[48] القرطبي 2/290.

[49] المغني 3/100.

[50] الشرح الكبير 7/358-364. وحاشية الروض 3/368-370.

[51] مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 15/158.

[52] حاشية الروض 3/347.

[53] رواه أحمد وأبوداوود والدارقطني وقال: هذا إسناد صحيح.

[54] رواه أبو داوود والترمذي وصححه وقال: العمل عليه عند أكثر أهل العلم.

[55] حاشية الروض 3/354.

[56] حاشية الروض 3/350. ومذهب أبي حنيفة يحتاج إلى تحرير.

[57] حاشية الروض 3/351.

[58] حاشية الروض 3/352.

[59] حاشية الروض 3/357.

[60] حاشية الروض 3/357-358.

[61] حاشية الروض 3/359.

[62] حاشية الروض 3/363-364.

[63] تفسير السعدي/86.

[64] تفسير القرطبي 2/307.

[65] لاواه ابن أبي شيبة 2/168 بسند صحيح

[66] رواه البيهقي في الكبرى3/315 بسند صحيح

[67] رواه البيهقي في الكبرى3/316 بسند صحيح

[68] المبسوط 2/43 والمجموع 5/39 والمغني 3/290 ومجموع الفتاوى 24/241-242 عن أحكام التكبير/157-162.

[69] كما في تفسير ابن كثير 1/132.

[70] البقرة/200.

[71] الجمعة /10.

[72] رواه أحمد في المسند 3/18 وحسن إسناده العدوي في التسهيل 3/109.

[73] تفسير السعدي /87.

[74] الضوء المنير 1/342 عن تحفة المودود /5.

[75] القرطبي 2/315.

[76] رواه أبو داوود وصححه الألباني في صحيح السنن(2065).

[77] تفسير السعدي/87.

[78] نقله عنه القرطبي 2/332.

[79] حاشية الروض المربع 3/492.

[80] حاشية الروض 3/373.

[81] حاشية الروض 3/478.

[82] حاشية الروض 3/480.

[83] رواه أبو داوود (2263).

[84] زاد المعاد 1/355.

[85] حاشية الروض 3/475.

[86] تفسير السعدي /87.

[87] رواه أبو داوود وصححه الألباني في صحيح السنن(2065).

[88] حاشية الروض 3/425.

[89] حاشية الروض 3/425.

[90] رواه أبو داوود (الاستنثار142) واترمذي كتاب الطهارة(38) والنسائي(87) وابن ماجه(448).

[91] حاشية الروض 3/422.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply