لماذا يعاني أهل الإيمان مع أن الله وعَدهم بالحياة الطيبة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

لماذا يعاني أهل الإيمان ويجدون المشقة في حياتهم؟

 بل نرى بعضهم يتعرّض لأشد الابتلاءات، بل النبي -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونةٌ عند يهودي في طعام، وقد تعرّض لما تعرض له من الابتلاءات التي تعرفونها، ابن تيمية -رحمه الله- مات في محبسه، الإمام أحمد عُذِّب وامتُحن، تَعاقَب عليه الخلفاء في المحنة، وشددوا عليه وجُلد، وبعض الصالحين قُتل، وبعض الصالحين وُضعت المناشير عليه، وإلى آخر ما تعلمون من أحوال أهل الصلاح.

 ألَا يتعارض هذا مع قول الله تعالى: (من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) ؟

 الله -سبحانه وتعالى- يقول (من عمل صالحًا من ذكرًا أو أنثى وهو مؤمن) إيمان مع العمل الصالح فالله -سبحانه وتعالى- يقول: ( فلنحيينه حياةً طيبة) أي في الدنيا، (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) أي في الآخرة.

 الآن هذا أليس فيه تعارض؟

 ألَا يُلقِي مثل هذا الأمر شكًا في قلوب من يقرؤون هذه الآية ؟ هذه الشبهة إنما دخلت على من دخلت عليه بسبب أنه قد حاكَم مفهوم الحياة الطيبة للمعنى المادي الاستهلاكي، فأصبحت الحياة الطيبة عنده تعني رزقًا كثيرًا و قصورًا كبيرة و أموالا تجري و بساتين يمنة ويسرة، ما شاء وما أراد من ملاذ الدنيا قد حصّله.

 هذا المعنى ليس مراد الشريعة في قضية الحياة الطيبة، وانظر لكلام السلف وفِقهم في هذا الباب، فأنت حاكَمت الشريعة وحاكمت الآية لمعنى الحياة الطيبة إلى معنى لم تُرِده الشريع .

 الآن أنت ربما ما تعرف جواب الشبهة، وقد ذكرت قبل هذه المرة أنه ثمة أصول في التعامل مع الشبه:

أتتك مثل هذه الشبهة، أتاك مشكك مثلًا، ولا أقول مُستشكل لأن الذي حرك عندي تسجيل هذه الصوتية أنه أتاني استشكال من شخصٍ عزيزٍ جدًا على قلبي فقال:

 إن ابن القيم قال (وقد ضَمِنَ الله سُبحانَهُ لِكُلِّ مَن عَمِلَ صالِحًا أن يُحييه حياةً طيبَة، وهُو صَادِقُ الوَعدِ لا يُخلِفُ وَعدَه) ومع ذلك فإن ابن تيمية مات في السجن ؟

 قلت: لا تعارض، لكن الآن سأثُبّت لك هذا الأصل:

 دائمًا دع هذا السلاح عندك حاضرًا وهو إذا أتتك شبهة ولم تعرف جوابها أو استشكال لم تعرف جوابه، فالقاعدة الأولية: أنه لا يمكن أن يكون هناك تعارضٌ بين آيات الله سبحانه وتعالى  وأحكامه، لا يمكن، كن على يقين بهذا، وإنما إذا رأيت تعارضا فإنما هذا تعارض تشكّل في ذهنك بسبب سوء فهمك، وأنه لا بد من ثمة جواب على ما قد استشكلت، والآن سوف نطبق عمليًا على هذا الإشكال الذي ذكرته:

الآن أتتنا هذه الشبهة :

 أحوال أهل الصلاح مرت معنا في الابتلاءات، بل قد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُبتلى المرء على قدر دينه، و قد جاء عنه أنه أشد الناس بلاءً الأنبياء، وثمة إشكال، إذن الأشكال أين يوجد؟

 مثل هذه العبارات الاستشكالية أكانت قد تفوت على أهل الكفر والمشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعوا هذه الآيات وهم رأوا الابتلاءات التي تعرّض لها النبي صلى الله عليه وسلم من يُتمه _بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام_ وموت من يحب من زوجة وعم وجد وأم، ولم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد دفن ذريته ما عدا فاطمة رضي الله عنها، ورُمي بعِرضه حتى أن المدينة ضجت في ذلك الكلام، نحن في زماننا اليوم لو أن مثل هذا الأمر يحصل لرجل لكان باطن الأرض أحب إليه من ظاهرها، حتى وإن كانت زوجته بريئة، مجرد خوض الناس في مثل هذا، وهناك من وقع في فتنة حادثة الإفك وصدّق من بعض الصالحين وإن كان السواد الاعظم من المؤمنين ما وقعوا، هذه الابتلاءات تعرّض لها النبي صلى الله عليه وسلم أكانت تفوت على أهل الإشراك والمتربصين الذين يريدون فقط إظهار أي خطأ قد تحداهم الله سبحانه وتعالى، أن يجدوا اختلافًا في القرآن، الآن الله سبحانه وتعالى يقول (فلنحيينه حياةً طيبة) ثم من نزل عليه القرآن يُبتلى بمثل هذه الابتلاءات،إذًا الاشكال يكون عندي أنا، لا بد أن أفهم ما مراد الشريعة بالحياة الطيبة؟

 لو تأملت القرآن تجد ذمًا مستمرًا للدنيا وأنها متاع الغرور و... و. . . إلى آخره وأنها أُعطيت للكفار، فرعون تجري من بين يديه الأنهار، وقارون وقصته وماله، وكثير من الجبابرة الذين أتت أخبارهم، الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا ( كلٌّ يمد هؤلاء من عطاء ربك) يعطي هؤلاء وهؤلاء، إذن ليس المراد بالحياة الطيبة المعنى الذي فهمتَه، بالفهم المادي الاستهلاكي، أغلى السيارات و أكبر البيوت وأوسعها ورصيد البنك الذي لا ينفد أموال كثيرة إلى إلى آخره، إذن ما المراد بمعنى الحياة الطيبة؟

إذا فهمنا معنى الحياة الطيبة أُزيل عنا الإشكال:

 قال السلف في تفسير هذه الآية في الحياة الطيبة:

 إنها القناعة، وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-  (أن الغِنى غنى النفس) روي عن ابن عباس وعكرمة ووهب، وقال بعضهم: هو الرزق الحلال، ليس معنى الرزق الحلال أن يكون كثيرا وإن قل، وهذه من الحياة الطيبة أن يكون مطعمك حلالا وإن كان قليلًا، لأنه ما من جسد ينمو من سحتٍ إلا والنار أولى به، وقال غير واحدٍ من السلف أن الحياة الطيبة: هي العمل بالطاعة والانشراح بها.

 إذن هذه معاني لم تَرِد على الذهن عند قرائتنا لهذه الآية، الآن تتعدل عندنا الصورة وتنضبط عندنا بوصلة الفهم.

 

 هذا المعنى تجده حاضرًا في كلام السلف التابعين الأئمة، قال إبراهيم ابن أدهم:

 (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه _ يعني من سعادة وراحة_ لجالدونا عليه بالسيوف)، وبعض المحدثين قال هذه العبارة، فهناك لذة طلب العلم، وحفظ أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وكأن المرء مع النبي -صلى الله عليه وسلم-  وأصحابه، فيقول:هذه اللذة لو علم بها الملوك و أبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، ابن تيمية -رحمه الله- تعلمون حاله، و هو الذي مات مسجونًا، كم مرة سُجن وكم مرة امتُحن وشدد عليه، ينقل عنه ابن القيم قوله:

ما يصنع أعدائي بي ! أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي_ يعني الجنة لا تفارقني _ إنّ حبْسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة. كل هذه الابتلاءات رآها في ذات الله أنها مقربة إلى رب العالمين فعادت لذة ! وعادت حياةً طيبة مع أن ظاهرها شدة وتشديد، لذلك نقل عنه ابن القيم قوله: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة) عجيب هذا المعنى ! حينئذ هذا هو معنى الحياة الطيبة، وأنه حتى لو كنت في أضيق الأماكن وأشدها تكون مطمئنًا بالله متعلقًا به متلذذًا بطاعته غنيّا به سبحانه وتعالى، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله- عن الدنيا وأحوالها قال:

(إنما هو طعامٌ دون طعام ولباسٌ دون لباس وإنما هي أيام قلائل) هذا حال الدنيا، بل من عزة المؤمن عند ربه أنه ما جعَل الحياة الطيبة التي يُجزَى على إيمانه وعمله هي التوسُّع هذا، نعم هذه من النعم وهي من الابتلاءات أيضا يعطيها الله -سبحانه وتعالى- من يشاء، ولكن ليست هي الحياة الطيبة المرادة كجزاء للإيمان والعمل ؛ لأن الدنيا لو كانت تساوي عند الله -سبحانه وتعالى- جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شربة ماء، أفتكون حينئذٍ جزاءً للصالحين الذين يحبهم الله سبحانه وتعالى !؟

 الله أكرم وأعز وأعظم وأرحم مِن أن يجازي عبده على إيمانه وصلاحه وثباته بأن يوسّع عليه في بعض النعم . بل تأمل فقه السلف أنهم رأوا أنه إذا فتح الله عليهم أنه قد يكون هذا استدراج أو أنه حسناتهم عُجّلت إليهم !

 عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أوتي له ببعض الكنوز والذهب لمّا فُتحت فارس بكى !

 اليوم الملوك والأمراء والرؤساء لمّا يقال الأموال زادت وكذا ربما يفرح، عمر بكى وقال :

مات النبي صلى الله عليه وسلم وما رأى مثل ذلك، ومات أبو بكر وما رأى مثل ذلك. يعني يُحبس عنهم هذا لخيرٍ فيني وشرٍّ بهم، لا. هو يخشى أن يكون هذا شر عليه أو شر فيه ؛ أنه أُتيت هذه الأمور عنده وحصلت في زمانه وأمام يديه!

 الآن انعكست، أصلا السلف يرون التوسع وأن الإنسان يُفتح عليه في هذا الباب، قد يكون سببا:

 إما استدراج أو أن حسناته عُجّلت إليه وهذه المعاني، لذلك فهْمُ القوم يختلف عن أفهامنا التي تعلقت في الدنيا.

هذا هو الجواب باختصار اسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى ويثبّتنا وإياكم على دينه حتى نلقاه وهو عنا راضٍ
                                                          وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply