الشيخ ناصر الشثري.. نعى النعاة إلى المروءة كنزها


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في مساء يوم الخميس 29 شوال 1442هـ، الموافق 10 يونيو 2021م، تسلل إليّ خبر عبر الهاتف يعزي في وفاة معالي الشيخ ناصر بن عبدالعزيز الشثري -رحمه الله-، فصدمت ووجمت، لكنني استرجعت وصمدت، واستدعيت الذكريات الطوال والسنين الغوال، فاستدارت بي الأيام إلى أعوام مضت، عرفت فيها الشيخ ناصر في حياة والده الشيخ عبدالعزيز بن محمد الشثري الشهير بأبي حبيب، والذي كان من كبار علماء ذلك الوقت، وكان والدي -رحم الله الجميع- صديقاً للشيخ وأسرته التي تربطها بآل معمر معرفة قديمة وصداقة حميمة، وكان الوالد يتردد على الشيخ عبدالعزيز في منزله في الرياض، يزوره بين الفينة والفينة، ويدعوه فيلبي الشيخ الدعوة، ويحضر ومعه بعض الأصدقاء والمعارف، ومن بينهم ابنه ناصر إلى منزلنا الكائن قرب شارع الأحساء في حي الملز بالرياض، حينذاك بدأت معرفتي بالشيخ ناصر في السبعينيات الهجرية في عهد الملك سعود.

 

ولد الشيخ ناصر حوالي عام 1349هـ في بلدة الرين (190 كيلاً جنوب غرب الرياض، و60 كيلاً جنوب القويعية)، وأتم دراسته الأولى فيها على يد والده، كما قرأ على الشيخ عبدالرحمن بن جبرين، ثم انتقل إلى الرياض ودرس في المعهد العلمي، بعد ذلك التحق بكلية العلوم الشرعية، وهي أول كلية جامعية في مدينة الرياض، تأسست عام 1373هـ، تحولت بعد ذلك إلى كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، وتتبع الإدارة العامة للكليات والمعاهد، ويشرف عليها سماحة مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم، ويرأسها أخوه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ قبل أن تصبح عام 1394هـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وبعد تخرجه في كلية اللغة العربية حوالي العام 1379هـ، عمل الشيخ ناصر مدرساً في المعهد العلمي بالرياض، وقد يستغرب البعض عدم تخرجه في كلية الشريعة، لكن هدفه من الدراسة في كلية اللغة العربية الابتعاد عن القضاء، ثم انتقل للعمل في الحرس الوطني عام 1384هـ، إلى أن أصبح مديراً لإدارة الشئون الدينية التي تحولت إلى جهاز الإرشاد والتوجيه، وتدرج في الوظائف حتى وصل إلى المرتبة الخامسة عشرة، وتقلبت به الحياة وتطورت حتى عين مستشاراً في الديوان الملكي حوالي العام 1397هـ، وحمل مرتبة وزير.

 

والشيخ غفر الله له من ذوي الرأي والحجة والإخلاص على سيرة أسلافه بيت علم وفضل لهم قدم صدق في مناصرة الدولة السعودية في أطوارها الأولى، وبرز منهم عدد من العلماء مثل الشيخ عيسى بن محمد الشثري المتوفى عام 1221هـ، والشيخ إبراهيم بن حمد الشثري المتوفى عام 1255هـ، والشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم الشثري المتوفى عام 1271هـ، أما والده الشيخ عبدالعزيز، فبعد أن ولد في حوطة بني تميم عام 1305هـ وقرأ على مشايخها ارتحل إلى الرياض ودرس على كبار علمائها -حينذاك- الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، والشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ، والشيخ سعد بن عتيق، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ حمد بن فارس، وهناك عدة روايات عن سبب تسميته بأبي حبيب، منها أنه كان سخيًّا، يبذل ما لديه لتأليف القلوب، ويسعى للتآخي والمحبة بين الناس، ويحسن إلى المستحقين، فأحبه الناس وكنّوه بهذا الاسم، ومنها أنه بهذا البذل والمحبة التي حصلت له كان يشبه شخصاً اسمه أو كنيته (أبوحبيب) فسمي عليه، وسمعت رواية نادرة عن سبب هذه التسمية وهي أنه حين كان يدرس على علماء الرياض، سكن في دخنة وكان عمره لم يتجاوز العشرين، وكان سكنه مفتوحاً يستقبل الضيوف ويكرمهم، ويحب من قدم إليه، فأصبح محبوباً، فبلغ ذلك الملك عبدالعزيز، فكناه بـ(أبي حبيب)، وأيًّا يكن فكل هذه الروايات تدل على حبه للناس ومحبتهم له:

الشيخ عبدالعزيز الفذ ذو ورع

نعم التقي بخير الذكر مصحوب

(أبو حبيب) حبيب في سجيته

محقق فاضل في الله محبوب

مناصح ناصح في المسلمين له

لدى المحافل ترغيب وترهيب

 

وفي عام 1337هـ عيَّنه الملك المؤسس قاضياً في الرين، فانتقل إليها مفتياً ومعلماً وإماماً وخطيباً، وكان له جهود في مناصحة ومناظرة الإخوان حين تمردوا على الملك عبدالعزيز، كما كان له جهود في الدعوة إلى الله على بصيرة والتعليم وبناء المساجد وإصلاح ذات البين والأمر بالمعروف، وفي عام 1374هـ رجع إلى الرياض وشارك في التدريس في حلقات المساجد، وفي بيته وفي معهد إمام الدعوة، ورأس هيئة الإرشاد في شمال المملكة التي شكلها الملك سعود عام 1380هـ، ومن تلاميذه الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين، والشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، وسماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ.

 

وأذكر أنه سكن في أحد المنازل الكبيرة المبنية من الطين في العطايف، وكان الباب دائماً لا يغلق، والنار لا تطفأ، والضيف لا يجفى، هكذا كانت بيوت الأجواد والكرماء، رغم قلة الموارد والإمكانات.

 

وكان غفر الله له بعيد النظر، له آراء وفتاوى سبق بها عصره في الطلاق، وفي حدود مشعر منى، وفي توسعة الحرم المكي، كما أنه أيد تلميذه الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود في فتواه بتوسعة وقت رمي الجمار، رغم معارضة كثير من العلماء -وقتذاك- لهذه الفتوى، وهو الذي أصبح عليه العمل الآن.

 

وقد ورث الشيخ ناصر من أبيه الكثير من الخصال والسجايا، وعرف في جميع أطوار حياته برجاحة العقل والهدوء والحلم والتسامح، وكان -غفر الله له- كثير المعارف والصداقات والصلات، يلجأ إليه الناس في الشفاعات والوساطات الحسنة، فيسعى ويساعد ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهذا ديدن وخلق ذوي المروءات، واستمر الشيخ هكذا طوال حياته، فكان منزله ومنزل أبيه من قبل مقصداً وقبلة للآتين من خارج الرياض وما حولها من القرى والأرياف الذين يقصدون الرياض لمراجعات المستشفيات أو الدوائر الحكومية أو غيرها، يحلون ضيوفاً على آل أبي حبيب، ويجدون كل شيء مهيئاً من مطعم ومشرب ومسكن، وأكثر من ذلك كرم النفوس والأريحية وإشعار الضيف بأنه هو صاحب المعروف، وهكذا بيوت الجود والأجواد، وكان للشيخ ناصر شقيق توفي قبله اسمه سعد. كان الشيخ سعد -رحمه الله- ورفع درجته، في عهد والده وعهد أخيه ناصر ليس له عمل إلا التصدي للضيوف والاهتمام بهم، وحمل أعباء الضيافة عن أبيه وأخيه وأسرته، وكان سعداً على اسمه، لذلك لما توفي حزن عليه الشيخ ناصر حزناً شديداً لأنه فقد فيه اليمين والمعين، والشيخ سعد -رحمه الله- كان أيضاً صاحب خلق وسمت، يفرح بالضيف، ويفزع لدفع الحيف، وهكذا هذه الأسرة المباركة، مثلها مثل باقي الأسر الكريمة المباركة التي لا يخلو منها مصر ولا قطر. كما عرفت كذلك أخاهما الثالث اللواء الطيار الركن عبدالله بن عبدالعزيز الشثري، وهو من نخبة طياري سلاح الجو الملكي السعودي (القوات الجوية حالياً) وممن شارك في حرب الوديعة، وبعد أن تقاعد تفرغ أيضاً مثل بقية أسرته لاستقبال الضيوف وإكرام القادم والاحتفاء بالوافد، وجمعتني به كذلك الميول الأدبية، وكان يهتم بشراء الكتب ودواوين الشعر، وكان معجباً بشعراء أهل القطر الكبير العراق، وأنا أشاركه هذا الإعجاب، وأذكر أنه اشترى كل دواوين الشاعر الحجة والخطيب الندرة محمد مهدي الجواهري، وقد أهداني مجموعة من هذه الدواوين. كما عرفت عددًا من أبناء هذه الأسرة المباركة، وربطتني بهم صداقات وصلات.

 

أعود للشيخ ناصر الذي سكن منزلاً في الطائف اشتراه في حي العقيق المقابل لقصر شبرا التاريخي من الوزير السابق عبدالله السعد القبلان، وكان هذا البيت أيضاً طيلة الصيف ليل نهار بابه مفتوح لا يغلق وأضواؤه موقدة لا تطفأ، وكذلك منازله في الرياض، وكان أحياناً يتردد على جدة وينزل في فندق الرمال، وكنت أنزل الفندق نفسه قبل أن أتدير جدة، وكانت لي في ذلك الفندق جلسات ومسامرات ومطارحات أدبية وفقهية وشعرية مع الشيخ ناصر والشيخ محمد بن جبير رفع الله منزلتهما. وكان الشيخ ناصر إذا فرغ من شؤونه وشأنه جلس في صالة كبرى يستقبل زواره ومحبيه وبعض المحتاجين إلى شفاعاته وتدخلاته، لا يضيق بكثرة المترددين ولا بإلحاح الملحين، وهذا من توفيق الله سبحانه بأن يمنح الإنسان الصبر والحلم والأناة وطولة البال وتحمل مطالب الناس، والمثل العربي يقول (صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاء حاجته)، وكنت أتعجب حين أزوره في مجالسه في الرياض أو جدة أو الطائف من تحمله وصبره، ولكن سبحان الله هكذا بعض الأشخاص {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، كان رفع الله درجته يأخذ مطالبهم بيده ويسعى في إنهائها لدى المسؤولين أو في الدوائر، وأسأل المولى -عز وجل- ألا يحرمه من دعاء المضطرين والمحتاجين.

 

وفي أواخر حياته بعد أن امتد به العمر وأدركه الكبر وضعف البشر وبعض الأسقام والآلام، تقبل ذلك باحتساب المؤمن وصبر الموقن واعتقاد المحسن، ولم يحجبه كل ذلك عن الاستجابة للشفاعات الضرورية والسعي في الإصلاح، وهنا ينطبق عليه قول الشاعر:

له حاجب عن كل عيب يشينه

وليس له عن طالب الفضل حاجب

 

كان بصيراً بأحوال المجتمع، ينزل الناس منازلهم، ويعرف لأهل الفضل فضلهم، يقدر الكبير، ويلاطف الصغير، يلبي الدعوات، ويشارك في المناسبات، ويؤدي الواجبات، ويقف على مسافة واحدة من الجميع، ينقل لأولي الأمر حاجات الناس، ويسعى لإصلاح ذات البين وتقريب وجهات النظر، وإذا كلف بمهمة أوجد حلاً مرضياً للحاكم والمحكوم، وهذا من توفيق الله له.

 

أما عن طبيعة أعماله الرسمية فقد لازم الملوك، وشارك في الوفود، وحمل الرسائل، وقدم الرأي والنصح والمشورة، بعيداً عن الأضواء والمنابر، فحظي بتقدير الملوك والأمراء ومحبتهم، وكان موضع ثقتهم، فهو من رجال الدولة الكبار.

 

وللشيخ ذائقة أدبية وموهبة شعرية، فعلاوة على حفظه للشعر بشقيه الفصيح والعامي، فهو يقرض الشعر كذلك. ومما يعرف عنه سلامة الصدر وعفة اللسان وترفعه عن الصغائر والسفاسف:

 

يصم عن الفحشاء حتى كأنه

إذا ذكرت في مجلس القوم غائب

 

إضافة إلى محبة الناس، لهذا لا يستغرب هذا العدد الكثير والجم الغفير من المحبين من كل الفئات والأطياف الذين مشوا في جنازته وتوافدوا، يتبادلون العزاء، ويذكرون الراحل بالثناء، وهكذا سير النبلاء والفضلاء والرجال الكرماء.

 

وإن مما يعزي النفس أن الإرث الكبير لهذه الأسرة المباركة مستمر -بحمد الله-، فكما كان الشيخ ناصر امتداداً لوالده وأسلافه -رحمهم الله-، فالشيخ سعد بن ناصر الشثري عضو هيئة كبار العلماء والمستشار في الديوان الملكي، يمثل اليوم مع عدد من أفراد هذه الأسرة المباركة طبقة من طبقات علماء الشثور، وامتداداً لهذا التاريخ العلمي والدعوي والاجتماعي.

 

كما أن مما يسر الخاطر أن الشيخ ناصر خلف بنين وبنات وحفدة وأسباطاً حريصين على نهجه ومنهجه في التآلف والتآخي والجود والإحسان، ماذا أقول وماذا أدع وأنا في موقف العزاء وساعة الرثاء في رمز من رموز الوطن وشخصية عرفتها عن قرب وعرفت عنها منذ ما يزيد على نصف قرن، ولا أملك إلا أن أقول رحم الله الشيخ ناصر بن عبدالعزيز أبوحبيب الشثري، وأعلى منزلته في عليين، وأدخله مدخلاً كريماً. العزاء للوطن بأسره في الفقيد الكبير.

 

هذا مقال سوفت فيه أياماً، أبتغي لحظة صفاء أو ساعة تجلٍّ، ولما طالت قلت أجعله هكذا والأمر لله.

 

من ظن بعدك أن يقول رثاء

فليرث من هذا الورى من شاء

فجع المكارم فاجع في ربها

والمجد في بانيه والعلياء

ونعى النعاة إلى المروءة كنزها

وإلى الفضائل نجمها الوضاء
                                                            وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply