تفسير سورة مريم

رجوع
 
<div class="wrapper" style="padding:10px;">
 <h1 class="title">سورة مريم - تفسير السعدي</h1>
 
  
 <div class=Section1 dir=RTL>
  
 <p>&nbsp;</p>
  
 <p><h1>&quot; ذكر رحمة ربك عبده زكريا &quot; </h1></p>
  
 <p>أي: هذا &quot;
 ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا &quot; سنقصه عليك, ونفصله تفصيلا,
 يعرف به حالة نبيه زكريا, وآثاره الصالحة, ومناقبه الجميلة. <br>
 فإن في قصها عبرة للمعتبرين, وأسوة للمقتدين. <br>
 ولأن في تفصيل رحمته لأوليائه, وبأي سبب حصلت لهم, مما يدعو إلى محبة الله تعالى,
 والإكثار من ذكره ومعرفته, والسبب الموصل إليه. <br>
 وذلك أن الله تعالى, اجتبى واصطفى, زكريا عليه السلام لرسالته, وخصه بوحيه. <br>
 فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين, ودعا العباد إلى ربه, وعلمهم ما علمه الله,
 ونصح لهم في حياته وبعد مماته, كإخوانه من المرسلين, ومن اتبعهم. <br>
 فلما رأى من نفسه الضعف, وخاف أن يموت,. <br>
 ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم شكا إلى ربه ضعفه
 الظاهر والباطن, وناداه نداء خفيا, ليكون أكمل, وأفضل, وأتم إخلاصا فقال: </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب
 شقيا &quot; </h1>
  
 <p>&quot;
 رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي &quot; أي:
 وهى وضعف, وإذا ضعف العظم, الذي هو عماد البدن, ضعف غيره. <br>
 &quot; وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا &quot; لأن الشيب
 دليل الضعف والكبر, ورسول الموت, ورائده, ونذيره. <br>
 فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه, وهذا من أحب الوسائل إلى الله, لأنه يدل التبري
 من الحول والقوة, وتعلق القلب بحول الله وقوته. <br>
 &quot; وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا &quot; أي:
 لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة. <br>
 بل لم تزل بي حفيا, ولدعائي مجيبا. <br>
 ولم تزل ألطافك تتوالى علي, وإحسانك واصلا إلي. <br>
 وهذا توسل إلى الله, بإنعامه عليه, وإجابة دعواته السابقة. <br>
 فسأل الذي أحسن سابقا, أن يتمم إحسانه لاحقا. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك
 وليا &quot; </h1>
  
 <p>&quot; وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي &quot; أي: وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي, أي: لا يقوموا
 بدينك حق القيام, ولا يدعوا عبادك إليك. <br>
 وظاهر هذا, أنه لم ير فيهم أحدا, فيه لياقة للإمامة في الدين. <br>
 وهذا فيه شفقة زكريا عليه السلام, ونصحه. <br>
 وأن طلبه للولد, ليس كطلب غيره, قصده مجرد المصلحة الدنيوية, وإنما قصده, مصلحة
 الدين, والخوف من ضياعه, ورأي غيره, غير صالح لذلك. <br>
 وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين, ومعدن الرسالة, ومظنة للخير. <br>
 فدعا الله أن يرزقه ولدا, يقوم بالدين من بعده. <br>
 واشتكى أن امرأته عاقر, أي ليست تلد أصلا, وأنه قد بلغ من الكبر عتيا, أي: عمرا
 يندر معه وجود الشهوة والولد. <br>
 &quot; فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا &quot; وهذه
 الولاية, ولاية الدين, وميراث النبوة والعلم والعمل. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا &quot; </h1>
  
 <p>ولهذا قال: &quot; يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ
 يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا &quot; أي: عبدا صالحا ترضاه, وتحببه
 إلى عبادك. <br>
 والحاصل أنه سأل الله ولدا, ذكرا, صالحا, يبق بعد موته, ويكون وليا من بعده, ويكون
 نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه, وهذا أفضل ما يكون من الأولاد. <br>
 ومن رحمة الله بعبده, أنه يرزقه ولدا صالحا, جامعا لمكارم الأخلاق, ومحامد الشيم. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا
 &quot; </h1>
  
 <p>فرحمه ربه واستجاب دعوته فقال: &quot; يَا زَكَرِيَّا
 &quot; إلى &quot; وَعَشِيًّا &quot; أي: بشره الله
 تعالى على يد الملائكة بـ &quot; يحيى &quot; وسماه الله له
 &quot; يحيى &quot; . <br>
 وكان اسما موافقا لمسماه: يحيا حياة حسية, فتتم به المنة, ويحيا حياة معنوية, وهي
 حياة القلب والروح, بالوحي والعلم والدين. <br>
 &quot; لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا &quot; أي:
 لم يسم هذا الاسم قبله أحد. <br>
 ويحتمل أن المعنى: لم نجعل له من قبل مثيلا ومساميا. <br>
 فيكون, بشارة بكماله, واتصافه بالصفات الحميدة, وأنه فاق من قبله ولكن هذا
 الاحتمال هذا العموم, لا بد أن يكون مخصوصا بإبراهيم, وموسى, ونوح عليهم الصلاة
 والسلام, ونحوهم, ممن هو أفضل من يحيى قطعا. <br>
 فحينئذ لما جاءته البشارة بهذا المولود, الذي طلبه, استغرب وتعجب وقال: </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر
 عتيا &quot; </h1>
  
 <p>&quot;
 رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ &quot; والحال
 أن المانع من وجود الولد, موجود بي وبزوجتي؟ وكأنه وقت دعائه, لم يستحضر هذا
 المانع, لقوة الوارد في قلبه, وشدة الحرص العظيم على الولد. <br>
 وفي هذه الحال, حين قبلت دعوته, تعجب من ذلك, فأجابه الله بقوله: </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا
 &quot; </h1>
  
 <p>&quot; كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ &quot; أي: الأمر مستغرب في العادة, وفي سنة الله في الخليقة, ولكن قدرة الله
 تعالى صالحة لإيجاده بدون أسبابها فذلك هين عليه, ليس بأصعب من إيجاده قبل, ولم
 يكن شيئا. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا
 &quot; </h1>
  
 <p>&quot;
 قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً &quot; أي: يطمئن
 بها قلبي. <br>
 وليس هذا شكا في خبر الله, وإنما هو, كما قال الخليل عليه السلام &quot;
 رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى
 وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي &quot; فطلب زيادة العلم, والوصول إلى عين
 اليقين بعد علم اليقين, فأجابه الله إلى طلبته, رحمة به. <br>
 &quot; قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ
 سَوِيًّا &quot; وفي الآية الأخرى &quot; ثَلَاثَةَ
 أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا &quot; . <br>
 والمعنى واحد, لأنه تارة يعبر بالليالي, وتارة بالأيام ومؤداها واحد. <br>
 وهذا من الآيات العجيبة, فإن منعه من الكلام مدة ثلاثة أيام, وعجزه عنه من غير خرس
 ولا آفة, بل كان سويا, لا نقص فيه - من الأدلة على قدرة الله الخارقة للعوائد, ومع
 هذا, ممنوع من الكلام, الذي يتعلق بالآدميين وخطابهم. <br>
 وأما التسبيح, والذكر ونحوه, فغير ممنوع منه. <br>
 ولهذا قال في الآية الأخرى &quot; وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ
 بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ &quot; . <br>
 فاطمأن قلبه, واستبشر بهذه البشارة العظيمة, وامتثل لأمر الله له, بالشكر, بعبادته
 وذكره. <br>
 فعكف في محرابه, وخرج على قومه منه, فأوحى إليهم. <br>
 أي: بالإشارة والرمز &quot; أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
 &quot; لأن البشارة بـ &quot; يحيى &quot; في حق
 الجميع, مصلحة دينية. <br>
 &quot; يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ
 الْحُكْمَ صَبِيًّا &quot; <br>
 دل الكلام السابق, على ولادة يحيى, وشبابه, وتربيته. <br>
 فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب, أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة, أي: بجد
 واجتهاد. <br>
 وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه, وفهم معانيه, والعمل بأوامره ونواهيه. <br>
 هذا تمام أخذ الكتاب بقوة. <br>
 فامتثل أمر ربه وأقبل على الكتاب فحفظه وفهمه, وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة,
 ما لا يوجد في غيره ولهذا قال: &quot; وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ
 صَبِيًّا &quot; . </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا &quot; </h1>
  
 <p>وآتيناه أيضا حنانا &quot;
 مِنْ لَدُنَّا &quot; أي: رحمة ورأفة, تيسرت بها أموره, وصلحت بها أحواله,
 واستقامت بها أفعاله. <br>
 &quot; وَزَكَاةً &quot; أي: طهارة من الآفات والذنوب, فطهر
 قلبه, وتزكى عقله, وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة, والأخلاق الرديئة, وزيادة
 الأخلاق الحسنة, والأوصاف المحمودة ولهذا قال: &quot; وَكَانَ
 تَقِيًّا &quot; أي: فاعلا للمأمور, تاركا للمحظور. <br>
 ومن كان مؤمنا تقيا, كان لله وليا, وكان من أهل الجنة, التي أعدت للمتقين. <br>
 وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي, ما رتبه الله على التقوى. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا &quot; </h1>
  
 <p>وكان أيضا برا &quot; بِوَالِدَيْهِ &quot; أي
 لم يكن عاقا, ولا مسيئا إلى أبويه بل كان محسنا إليهما بالقول والفعل. <br>
 &quot; وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا &quot; أي لم يكن
 متجبرا متكبرا عن عبادة الله, ولا مترفعا على عبادة الله, ولا على والديه. <br>
 فجمع بين القيام بحق الله, وحق خلقه, ولهذا حصلت له السلامة من الله, في جميع
 أحواله مبادئها وعواقبها. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا &quot; </h1>
  
 <p>فلذا قال: &quot; وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
 وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا &quot; وذلك يقتضي سلامته من
 الشيطان, والشر, والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها, وأنه سالم من النار
 والأهوال, ومن أهل دار السلام. <br>
 فصلوات الله وسلامه عليه, وعلى والده, وعلى سائر المرسلين, وجعلنا من أتباعهم, إنه
 جواد كريم. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا &quot; </h1>
  
 <p>لما ذكر قصة زكريا ويحيى, وكانت من الآيات العجيبة, انتقل, منها إلى ما
 هو أعجب منها, تدريجا من الأدنى إلى الأعلى فقال: &quot; وَاذْكُرْ
 فِي الْكِتَابِ &quot; الكريم &quot; مَرْيَمَ &quot; عليها
 السلام, وهذا من أعظم فضائلها, أن تذكر في الكتاب العظيم, الذي يتلوه المسلمون, في
 مشارق الأرض ومغاربها, تذكر فيه بأحسن الذكر, وأفضل الثناء, جزاء لعملها الفاضل,
 وسعيها الكامل. <br>
 أي: واذكر في الكتاب مريم, في حالها الحسنة, حين &quot;
 انْتَبَذَتْ &quot; أي: تباعدت عن أهلها &quot; مَكَانًا
 شَرْقِيًّا &quot; أي: مما يلي الشرق عنهم. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا
 &quot; </h1>
  
 <p>&quot;
 فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا &quot; أي:
 سترا ومانعا. <br>
 وهذا التباعد منها, واتخاذ الحجاب, لتعتزل, وتنفرد بعبادة ربها, وتقنت له في حالة
 الإخلاص والخضوع, والذل لله تعالى, وذلك امتثال منها لقوله تعالى: &quot;
 وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ
 وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ
 وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ &quot; . <br>
 &quot; فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا &quot; وهو: جبريل
 عليه السلام &quot; فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا &quot; أي:
 كاملا من الرجال, في صورة جميلة, وهيئة حسنة, لا عيب فيه ولا نقص, لكونها لا تحتمل
 رؤيته على ما هو عليه. <br>
 فلما رأته في هذه الحال, وهي معتزلة عن أهلها, منفردة عن الناس, قد اتخذت الحجاب
 عن أعز الناس عليها, وأهلها, خافت أن يكون رجلا قد تعرض لها بسوء, وطمع فيها,
 فاعتصمت بربها, واستعاذت منه فقالت له: </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا &quot; </h1>
  
 <p>&quot;
 إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ &quot; أي. <br>
 ألتجئ به واعتصم برحمته, أن تنالني بسوء. <br>
 &quot; إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا &quot; أي: إن كنت تخاف الله,
 وتعمل بتقواه, فاترك التعرض لي. <br>
 فجمعت بين الاعتصام بربها, وبين تخويفه وترهيبه, وأمره بلزوم التقوى, وهي في تلك
 الحالة الخالية, والشباب, والبعد عن الناس. <br>
 وهو في ذلك الجمال الباهر, والبشرية الكاملة السوية, ولم ينطق لها بسوء, أو يتعرض
 لها. <br>
 وإنما ذلك خوف منها, وهذا أبلغ ما يكون من العفة, والبعد عن الشر وأسبابه. <br>
 وهذه العفة - خصوصا مع اجتماع الدواعي, وعدم المانع - من أفضل الأعمال. <br>
 ولذلك أثنى الله عليها فقال: &quot; وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ
 الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا &quot; , &quot; وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا
 وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ &quot; . </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا &quot; </h1>
  
 <p>فأعاضها الله بعفتها, ولدا من آيات الله,
 ورسولا من رسله. <br>
 فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة, قال: &quot; إِنَّمَا أَنَا
 رَسُولُ رَبِّكِ &quot; أي, إنما وظيفتي وشغلي, تنفيذ رسالة ربي فيك &quot; لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا &quot; . <br>
 وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه, فإن الزكاء, يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة,
 واتصافه بالخصال الحميدة. <br>
 فتعجبت من وجود الولد من غير أب فقالت: &quot; أَنَّى يَكُونُ لِي
 غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا &quot; والولد لا
 يوجد إلا بذلك؟!!. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان
 أمرا مقضيا &quot; </h1>
  
 <p>&quot;
 قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ
 &quot; تدل على قدرة الله تعالى, وعلى أن الأسباب
 جميعها, لا تستقل بالتأثير, وإنما تأثيرها بتقدير الله. <br>
 فيرى عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية, لئلا يقفوا مع الأسباب, ويقطعوا
 النظر عن مقدرها ومسببها &quot; وَرَحْمَةً مِنَّا &quot; ولنجعله
 رحمة منا به, وبوالدته, وبالناس. <br>
 أما رحمة الله به, فلما خصه الله بوحيه ومن عليه بما من به على أولي العزم. <br>
 وأما رحمته بوالدته, فلما حصل لها من الفخر, والثناء الحسن, والمنافع العظيمة. <br>
 وأما رحمته بالناس, فإن أكبر نعمه عليهم, أن بعث فيهم رسولا, يتلو عليهم آياته,
 ويزكيهم, ويعلمهم الكتاب والحكمة, فيؤمنون به, ويطيعونه, وتحصل لهم سعادة الدنيا
 والآخرة. <br>
 &quot; وَكَانَ &quot; أي: وجود عيسى عليه السلام على هذه
 الحاله &quot; أَمْرًا مَقْضِيًّا &quot; قضاء سابقا, فلا
 بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء, فنفخ جبريل عليه السلام في جيبها. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; فحملته فانتبذت به مكانا قصيا &quot; </h1>
  
 <p>أي: لما حملت بعيسى عليه السلام, خافت من الفضيحة, فتباعدت عن الناس &quot; مَكَانًا قَصِيًّا &quot; . <br>
 فلما قرب ولادها, ألجأها المخاض إلى جذع نخلة. <br>
 فلما آلمها وجع الولادة, ووجع الانفراد عن الطعام والشراب, ووجع قلبها من قالة
 الناس, وخافت عدم صبرها, تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث, وكانت نسيا منسيا فلا
 تذكر. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا &quot; </h1>
  
 <p>وهذا التمني بناء على ذلك المزعج, وليس في هذه الأمنية خير لها, ولا
 مصلحة, وإنما الخير والمصلحة, بتقدير ما حصل فحينئذ سكن الملك روعها وثبت جأشها
 وناداها من تحتها, لعله من مكان أنزل من مكانها, وقال لها: لا تحزني, أي: لا تجزعي
 ولا تهتمي فـ &quot; قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا &quot;
 أي: نهرا تشربين منه. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا &quot; </h1>
  
 <p>&quot;
 وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
 &quot; أي: طريا لذيذا نافعا &quot;
 فَكُلِي &quot; من التمر, &quot; وَاشْرَبِي &quot; من
 النهر &quot; وَقَرِّي عَيْنًا &quot; بعيسى. <br>
 فهذا طمأنينتها من جهة السلامة من ألم الولادة, وحصول المأكل والمشرب الهني. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت
 للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا &quot; </h1>
  
 <p>وأما من جهة قالة الناس, فأمرها أنها إذا
 رأت أحدا من البشر, أن تقول على وجه الإشارة: &quot; إِنِّي
 نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا &quot; أي: سكوتا &quot;
 فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا &quot; أي: لا تخاطبيهم, بكلام,
 لتستريحي من قولهم وكلامهم. <br>
 وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة. <br>
 وإنما لم تؤمر بمخاطبتهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها, ولا فيه
 فائدة, وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد, أعظم شاهد على براءتها. <br>
 فإن إتيان المرأة بولد, من دون زوج ودعواها أنه من غير أحد, من أكبر الدعاوي, التى
 لو أقيم عليها عدة من الشهود, لم تصدق بذلك. <br>
 فجعلت بينة هذا الخارق للعادة, أمرا من جنسه, وهو كلام عيسى في حال صغره جدا,
 ولهذا قال تعالى: &quot; فَأَتَتْ بِهِ &quot; إلى &quot; أُبْعَثُ حَيًّا &quot; </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا &quot; </h1>
  
 <p>أي: فلما تعلت مريم من نفاسها, أتت بعيسى
 قومها تحمله, وذلك, لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها, فأتت غير مبالية ولا مكترثة. <br>
 فقالوا: &quot; لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا &quot; أي:
 عظيما وخيما وأرادوا بذلك: البغاء حاشاها من ذلك. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا &quot; </h1>
  
 <p>&quot; يَا أُخْتَ هَارُونَ &quot; الظاهر, أنه أخ لها حقيقي, فنسبوها إليه. <br>
 &quot; مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ
 بَغِيًّا &quot; أي: لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من البشر, وخصوصا هذا
 البشر, الذي يشيرون إليه. <br>
 وقصدهم: فكيف كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟. <br>
 وذلك أن الذرية - في الغالب - بعضها من بعض, في الصلاح وضده. <br>
 فتعجبوا - بحسب ما قام بقلوبهم - كيف وقع منها, فأشارت لهم إليه, أي كلموه. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا &quot; </h1>
  
 <p>وإنما أشارت لذلك, لأنها أمرت عند مخاطبة الناس لها, أن, تقول: &quot; إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
 إِنْسِيًّا &quot; . <br>
 فلما أشارت إليهم بتكليمه, تعجبوا من ذلك وقالوا: &quot; كَيْفَ
 نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا &quot; لأن ذلك لم تجر به عادة,
 ولا حصل من أحد في ذلك السن. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا &quot; </h1>
  
 <p>فحينئذ قال عيسى عليه السلام, وهو في المهد صبي: &quot;
 إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا &quot; فخاطبهم
 بوصفه بالعبودية, وأنه ليس فيه صفة, يستحق بها أن يكون إلها, أو ابنا للإله, تعالى
 الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى - في قوله &quot; إِنِّي
 عَبْدُ اللَّهِ &quot; ومدعون موافقته &quot; آتَانِيَ
 الْكِتَابَ &quot; أي: قضى أن يؤتيني الكتاب &quot;
 وَجَعَلَنِي نَبِيًّا &quot; فأخبرهم بأنه عبد الله, وأن الله علمه الكتاب,
 وجعله من جملة أنبيائه, فهذا من كماله لنفسه. <br>
 ثم ذكر تكميله لغيره فقال: &quot; وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ
 مَا كُنْتُ &quot; أي: في أي مكان, وأي زمان. <br>
 فالبركة جعلها الله فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه, والنهي عن الشر, والدعوة
 إلى الله في أقواله, وأفعاله فكل من جالسه, أو اجتمع به, نالته بركته, وسعد به
 مصاحبه. <br>
 &quot; وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا
 &quot; أي: أوصاني بالقيام بحقوقه, التي من أعظمها الصلاة, وحقوق عباده,
 التي أجلها الزكاة, مدة حياتي, أي: فأنا ممتثل لوصية ربي, عامل عليها, منفذ لها. <br>
 وأوصاني أيضا, أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان, وأقوم بما ينبغي له,
 لشرفها وفضلها, ولكونها والدة, لها حق الولادة وتوابعها. <br>
 &quot; وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا &quot; أي: متكبرا على
 الله, مترفعا على عباده &quot; شَقِيًّا &quot; في دنياي
 وأخراي, فلم يجلعني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا, متواضعا لعباد
 الله, سعيدا في الدنيا والآخرة, أنا ومن اتبعني. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا &quot; </h1>
  
 <p>فلما تم له الكمال, ومحامد الخصال قال: &quot;
 وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
 &quot; أي: من فضل ربي وكرمه, حصلت لي السلامة يوم ولادتي, ويوم بعثي - من
 الشر, والشيطان والعقوبة. <br>
 وذلك يقتضي سلامته من الأهوال, ودار الفجار, وأنه من أهل دار السلام. <br>
 فهذه معجزة عظيمة, وبرهان باهر, على أنه رسول الله, وعبد الله حقا. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون &quot; </h1>
  
 <p>أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات, عيسى بن مريم, من غير شك ولا مرية. <br>
 بل قول الحق, وكلام الله, الذي لا أصدق منه قيلا, ولا أحسن منه حديثا. <br>
 فهذا الخبر اليقيني, عن عيسى عليه السلام, وما قيل فيه مما يخالف هذا, فإنه مقطوع
 ببطلانه. <br>
 وغايته أن يكون شكا من قائله لا علم له به, ولهذا قال: &quot;
 الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ &quot; أي: يشكون فيما يرون بشكهم, ويجادلون
 بخرصهم فمن قائل عنه: إنه الله, أو ابن الله, أو ثالث ثلاثة, تعالى الله عن إفكهم
 وتقولهم, علوا كبيرا.</p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له
 كن فيكون &quot; </h1>
  
 <p>فـ &quot; مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ
 وَلَدٍ &quot; أي: ما ينبغي ولا يليق, لأن ذلك من الأمور المستحيلة, لأنه
 الغني الحميد, المالك لجميع الممالك, فكيف يتخذ من عباده ومماليكه, ولدا؟!! &quot; سُبْحَانَهُ &quot; أي: تنزه وتقدس عن الولد والنقص. <br>
 &quot; إِذَا قَضَى أَمْرًا &quot; أي من الأمور الصغار
 والكبار, لم يمتنع, عليه ولم يستصعب &quot; فَإِنَّمَا يَقُولُ
 لَهُ كُنْ فَيَكُونُ &quot; . <br>
 فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي, فكيف يكون له ولد؟!!. <br>
 وإذا كان إذا أراد شيئا قال له: &quot; كن فيكون &quot; فكيف
 يستبعد إيجاده عيسى من غير أب؟!!. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم &quot; </h1>
  
 <p>ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره فقال: &quot;
 وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ &quot; الذي خلقنا, وصورنا, ونفذ فينا
 تدبيره, وصرفنا تقديره. <br>
 &quot; فَاعْبُدُوهُ &quot; أي: أخلصوا له العبادة,
 واجتهدوا في الإنابة. <br>
 وفي هذا, الإقرار بتوحيد الربوبية, وتوحيد الإلهية, والاستدلال بالأول على الثاني.
 <br>
 ولهذا قال: &quot; هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ &quot; أي:
 طريق معتدل, موصل إلى الله, لكونه طريق الرسل وأتباعهم, وما عدا هذا, فإنه من طرق
 الغي والضلال. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم
 &quot; </h1>
  
 <p>لما بين تعالى حال عيسى بن مريم الذي لا يشك فيها ولا يمتري, أخبر أن
 الأحزاب, أي: فرق الضلال, من اليهود والنصارى وغيرهم, على اختلاف طبقاتهم -
 اختلفوا في عيسى عليه السلام, فمن غال فيه وجاف. <br>
 فمنهم من قال: إنه الله, ومنهم من قال: إنه ابن الله. <br>
 ومنهم من قال: إنه ثالث ثلاثة. <br>
 ومنهم من يجعله رسولا, بل رماه بأنه ولد بغي كاليهود. <br>
 وكل هؤلاء أقوالهم باطله, وآراؤهم فاسدة, مبنية على الشك والعناد, والأدلة
 الفاسدة, والشبه الكاسدة, وكل هؤلاء مستحقون للوعيد الشديد, ولهذا قال: &quot; فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا &quot; بالله ورسله, وكتبه. <br>
 ويدخل فيهم, اليود والنصارى, القائلون بعيسى قول الكفر. <br>
 &quot; مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ &quot; أي: مشهد يوم
 القيامة, الذي يشهده الأولون والآخرون, أهل السماوات, وأهل الأرض, الخالق
 والمخلوق, الممتلئ بالزلازل والأهوال المشتمل على الجزاء بالأعمال. <br>
 فحينئذ يتبين ما كانوا يخفون ويبدون, وما كانوا يكتمون. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين
 &quot; </h1>
  
 <p>&quot; أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا &quot; أي: ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم؟!. <br>
 فيقررون بكفرهم وشركهم وأقوالهم ويقولون: &quot; ربنا أبصرنا
 وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون &quot; ففي القيامة, يستيقنون حقيقة
 ما هم عليه. <br>
 &quot; لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ &quot;
 وليس لهم عذر في هذا الضلال, لأنهم بين معاند ضال على بصيرة, عارف بالحق,
 صادف عنه, وبين ضال عن طريق الحق, متمكن من معرفة الحق والصواب, ولكنه راض بضلاله
 وما هو عليه من سوء أعماله, غير ساع في معرفة الحق من الباطل. <br>
 وتأمل كيف قال: &quot; فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا &quot; بعد
 قوله &quot; فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ &quot; .
 <br>
 ولم يقل &quot; فويل لهم &quot; ليعود الضمير إلى الأحزاب,
 لأن من الأحزاب المختلفين, طائفة أصابت الصواب, ووافقت الحق فقالت في عيسى: &quot; إنه عبد الله ورسوله &quot; فآمنوا به, واتبعوه. <br>
 فهؤلاه مؤمنون, غير داخلين في هذا الوعيد, فلهذا خص الله بالوعيد الكافرين. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون
 &quot; </h1>
  
 <p>الإنذار هو: الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب, والإخبار بصفاته, وأحق
 ما ينذر به ويخوف به العباد, يوم الحسرة حين يقضى الأمر, فيجمع الأولون والآخرون
 في موقف واحد, ويسألون عن أعمالهم. <br>
 فمن آمن بالله, واتبع رسله سعد سعادة لا يشقى بعدها. <br>
 ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقى شقاء لا يسعد بعدها, وخسر نفسه وأهله. <br>
 فحينئذ يتحسر ويندم ندامة, تنقطع منها القلوب, وتتصدع منها الأفئدة. <br>
 وأي: حسرة أعظم من قوات رضا الله وجنته, واستحقاق سخطه والنار, على وجه لا يتمكن
 الرجوع, ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى الدنيا؟!! </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون &quot; </h1>
  
 <p>فهذا قدامهم, والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم لا
 يخطر بقلوبهم, ولو خطر, فعلى سبيل الغفلة, قد عمتهم الغفلة وشملتهم السكرة, فهم لا
 يؤمنون بالله, ولا يتبعون رسله. <br>
 قد ألهتهم دنياهم, وحالت بينهم وبين الإيمان, شهواتهم المنقضية الفانية. <br>
 فالدنيا وما فيها, من أولها إلى آخرها, ستذهب عن أهلها, ويذهبون عنها, وسيرث الله
 الأرض ومن عليها, ويرجعهم إليه, فيجازيهم بما عملوا فيها, وما خسروا فيها أو
 ربحوا. <br>
 فمن عمل خيرا, فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك, فلا يلومن إلا نفسه. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا &quot; </h1>
  
 <p>أجل الكتب وأفضلها وأعلاها, هذا الكتاب المبين, والذكر الحكيم. <br>
 فإن ذكر فيه الأخبار, كانت أصدق الأخبار, وأحقها, وأنفعها. <br>
 وإن ذكر فيه الأمر والنهي, كانت أجل الأوامر والنواهي, وأعدلها وأقسطها. <br>
 وإن ذكر فيه الجزاء, والوعد والوعيد, كان أصدق الأنباء وأحقها وأدلها على الحكمة,
 والعدل والفضل. <br>
 وإن ذكر فيه الأنبياء والمرسلون, كان المذكور فيه, أكمل من غيره, وأفضل. <br>
 ولهذا كثيرا ما يبدئ ويعيد في قصص الأنبياء, الذين فضلهم على غيرهم, ورفع قدرهم,
 وأعلى أمرهم, بسبب ما قاموا به, من عبادة الله ومحبته, والإنابة إليه, والقيام
 بحقوقه, وحقوق العباد, ودعوة الخلق إلى الله, والصبر على ذلك, والمقامات الفاخرة,
 والمنازل العالية. <br>
 فذكر الله في هذه السورة, جملة من الأنبياء, يأمر الله رسوله أن يذكرهم. <br>
 لأن في ذكرهم إظهار الثناء على الله وعليهم, وبيان فضله وإحسانه إليهم. <br>
 وفيه الحث على الإيمان بهم, ومحبتهم, والاقتداء بهم, فقال: &quot;
 وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا &quot; جمع
 الله له بين الصديقية والنبوة. <br>
 فالصديق: كثير الصدق, فهو الصادق في أقواله, وأفعاله, وأحواله المصدق بكل ما أمر
 بالتصديق به. <br>
 وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب, المؤثر فيه, الموجب لليقين, والعمل
 الصالح الكامل. <br>
 وإبراهيم عليه السلام, هو أفضل الأنبياء كلهم, بعد محمد صلى الله عليه وسلم. <br>
 وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة. <br>
 وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب. <br>
 وهو الذي دعا الخلق إلى الله, وصبر على ما ناله من العذاب العظيم. <br>
 فدعا القريب والبعيد, واجتهد في دعوة أبيه, مهما أمكنه. <br>
 وذكر الله مراجعته إياه فقال: &quot; إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ &quot; مهجنا
 له عبادة الأوثان. <br>
 &quot; يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ
 وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا &quot; . <br>
 أي: لم تعبد أصناما, ناقصة في ذاتها, وفي أفعالها, فلا تسمع, ولا تبصر ولا تملك
 لعابدها, نفعا ولا ضرا, بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع, ولا تقدر على شيء من
 الدفع. <br>
 فهذا برهان جلي دال, على أن عبادة الناقص, في ذاته, وأفعاله, مستقبح, عقلا وشرعا. <br>
 ودل تنبيهه وإشارته, أن الذي يجب, ويحسن, عبادة من له الكمال الذي, لا ينال العباد
 نعمة إلا منه, ولا يدفع عنهم نقمة, إلا هو, وهو الله تعالى. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا
 سويا &quot; </h1>
  
 <p>&quot; يَا
 أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ &quot; أي: يا أبت لا تحقرني وتقول: إني ابنك, وإن عندك ما ليس عندي, بل قد
 أعطاني الله من العلم ما لم يعطك. <br>
 والمقصود من هذا قوله: &quot; فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا
 سَوِيًّا &quot; أي: مستقيما معتدلا, وهو: عبادة الله وحده لا شريك له,
 وطاعته في جميع الأحوال. <br>
 وفي هذا من لطف الخطاب ولينه, ما لا يخفى; فإنه لم يقل &quot; يا
 أبت أنا عالم, وأنت جاهل &quot; أو &quot; ليس عندك من
 العلم شيء &quot; . <br>
 وإنما أتى بصيغة أن عندي وعندك علما, وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك, ولم يأتك. <br>
 فينبغي لك أن تتبع الحجة, وتنقاد لها. </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا &quot; </h1>
  
 <p>&quot; يَا
 أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ &quot; لأن من
 عبد غير الله, فقد عبد الشيطان كما قال تعالى &quot; أَلَمْ
 أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ
 لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ &quot; . <br>
 &quot; إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا &quot; فمن
 اتبع خطواته, فقد اتخذه وليا وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان. <br>
 وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن, إشارة إلى أن المعاصي, تمنع العبد من رحمة
 الله وتغلق عليه أبوابها. <br>
 كما أن الطاعة, أكبر الأسباب لنيل رحمته, ولهذا قال: </p>
  
 <h1 dir=RTL style='text-align:right;direction:rtl;unicode-bidi:embed'>&quot; يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا
 &quot; </h1>
  
 <p>&quot; يَا
 أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ &quot; أي: بسبب إصرارك على الكفر, وتماديك في الطغيان &quot;
 فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا &quot; أي: في الدنيا والآخرة, فتنزل
 بمنازله الذميمة, وترتع في مراتعه الوخيمة. <br>
 فتدرج الخليل عليه السلام بدعوة أبيه, بالأسهل فالأسهل. <br>
 فأخبره بعلمه, وأن ذلك, موجب لاتباعك إياي وأنك إن أطعتني, اهتديت إلى صراط