أبي محمد القاسم بن فيرة الشاطبي

إسبانيا

اسمه ونسبه:

هو الإمام العالم أبو محمد القاسم بن فِيْرُّه - بكسر الفاء وسكون التَّحتية وتشديد الراء المضمومة، معناه بالعربي: الحديد - بن خَلَف بن أحمد الرُّعَينِيِّ - بضمِّ الراء وفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية وبعدها نون؛ نسبة إلى ذي رُعَيْن، أحد أقيال اليمن - الشاطبيِّ الضَّرير المقرئ أحد أعلام القرن السادس الهجري[1].

 

 

مولده، نشأته، رحلته:

وُلِدَ رحمه اللهُ في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة 538 للهجرة بشاطبة في الأندلس، ونشأ بها مُقبلًا على العلم؛ حيث تعلَّم القراءات على شيخه أبي عبدالله محمد بن أبي العاص النَّفزي، ثم رحل إلى بلنسية بالقرب من بلده، فعرض بها التيسيرَ مِن حفظه، والقراءاتِ على ابن هُذيل، وسمع منه الحديثَ، ثم رحل للحَجِّ فسمع مِن أبي طاهر السِّلَفي بالإسكندرية، ولما دخل مصر أكرمه القاضي الفاضل، وعرف مقداره، وأنزله بمدرسته التي بناها داخل القاهرة، وجعله شيخًا لها، وفيها نظم قصيدتَه اللامية الموسومة بـ(حِرز الأماني ووجه التَّهاني)، والتي اشتهرت في الآفاق باسم الشاطبيَّة نسبةً إليه.

 


شيوخه:

أخذ الإمامُ الشاطبي القراءاتِ وعلومًا أخرى عن شيوخٍ أجلاء، وقد ذَكَر تلميذُه السَّخاوي نُبَذًا من فضائله وشيوخِه رضي الله عنه؛ حيث قال:

"أخذ القراءةَ من الشيخ الإمام الزاهد أبي الحسن بن هُذيل[2]، عن أبي داود، عن أبي عمرو الدَّاني رحمهم الله، وأخذَها أيضًا عن أبي عبدالله محمد بن أبي العاص النَّفزي"[3].

 

قال الشيخ عَلَم الدين أبو الحسن علي بن محمد السخاوي: "وقد رأيتُ أن أذكُر ما كتباه له في ذلك من معرفة سنده المتصل بالأئمة السبعة رضي الله عنهم، ثم أذكُر إن شاء الله عند ذكر الأئمة السَّبعة اتصال قراءتِهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا بدَّ مِن معرفة ذلك لمن ترجِع قراءتُه إلى هذا السند"[4].

 

كتب له شيخه أبو عبدالله محمد أبي العاص النَّفزي[5]:

"الحمد لله الواحد الصَّمد، الذي لم يلدْ ولم يُولدْ، ولم يكنْ له كفوًا أحد...، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه المصطفى، ورسوله المرتضى، بعثه إلى الثَّقلين بالدِّين القيِّم، والبرهان البيِّن، بكتاب عزيز حكيم، مُعجِزِ التأليف والنظام، باينٍ عن جميع الكلام، خارج عن تخيير المخلوقين؛ ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الواقعة: 80].

 

فرض فيه الفرائضَ، وأوضح فيه الشرائعَ، وأحلَّ وحرَّم، وأدَّب وعلَّم، وأنزله بأيسر الوجوه وأفصحِ اللغات، وأذن فيه بتغايرِ الألفاظِ واختلاف القراءات، وجعله مهيمنًا على كلِّ كتابٍ أنزله قبل القرآن، ووعد من تلاه حقَّ تلاوتِه بجزيل الأجر والثواب والرضوان، حفظه الله من تحريف المُبطِلين، وخَطَل الزَّائغين، وأورثَه من اصطفاه من خَليقته وارتضاه من بريَّته...؛ فلله الحمد على ما أنعم وأَوْلَى، ووهب وأعطى من آلائه التي لا تُحصى، ونَعمائه التي لا تخفى.

 

وصلى الله على نبيِّه محمدٍ، أمينِ وحيه، وخاتم رسلِه، صلاة زاكيةً نامية، على مرِّ الزمن وتتابعِ الأمم، وعلى أهل بيتِه الطَّيبين الطَّاهرين، وأصحابه المنتخبين، وأزواجه أمَّهات المؤمنين، ثمَّ السَّلام عليه وعليهم أجمعين.

 

يقول محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النَّفزي المقرئ وفَّقَه الله: "إنَّ صاحبَنا أبا محمد قاسم بن فارُّة بن أبي القاسم الرُّعيني حفظه الله وأكرمه، قرأ عليَّ القرآن كلَّه مكررًا ومرددًا، مُفرِدًا لمذاهب القَرَأة[6] السَّبعة أئمةِ الأمصار رحمهم الله من رواياتِهم المشهورة وطرقِهم المعروفة، التي تضمَّنها كتابُ "التيسير" و"الاقتصاد"؛ للحافظ أبي عمرو المقرئ وغيرهما، وهم:

نافع بن عبدالرحمن بن أبي نعيم، وعبدالله بن كثير المَكِّي، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وعبدالله بن عامر الشامي، وعاصم بن أبي النَّجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الزَّيات الكوفي، وعليُّ بن حمزة الكسائي الكوفي"[7].

 

أمَّا شيخُه أبو الحسن بن هُذيل فكتب له:

يقول عليُّ بن محمد بن علي بن هذيل: "إن المقرئَ أبا محمدٍ قاسم بن فِيرُّه بن أبي القاسم الرُّعيني أيَّدَه اللهُ بطاعته، وأمدَّه بتوفيقه ومعونته، قرأ عليَّ القرآن من فاتحته إلى خاتِمتِه ختمةً واحدة بمذاهبِ الأئمةِ السَّبعة رحمهم الله.

 

وقد أجزتُ له وفَّقه اللهُ جمعَ هذه القراءاتِ السبع من الروايات والطرق المنصوصة على سبيل الإجازة والرواية[8]، وأذنتُ له أن يقرأ بها على حسب ما قرأها عليَّ، وأخذتها عليه، وضبطَها عنِّي وسمعها منِّي، على حسب ما نصَّ عليه الإمام الحافظ المقرئ اللغوي أبو عمرو في مصنَّفاته التي سمع بعضَها عليَّ، ولا يخالف ذلك ولا يتعدَّاه إلى غيره، فهو الطريقُ الواضحُ والسبيل القويمُ إن شاء الله تعالى.

 

وقد قرأتُ القرآن بهذه القراءات من الطُّرق المذكورة على الإمام المقرئ الزَّاهد أبي داود رضي الله عنه، حدَّثني بها عن شيخه الحافظ أبي عمرو عن شيوخه المذكورةِ أسانيدُ قراءاتِهم في التيسير وغيره من أوضاعه رحمه الله.

وكذلك أجزتُ له جميع ما أحمِلُه من الشيخ الإمام المقرئ المذكور عن شيوخه من القراءات، والتفسير، والناسخ والمنسوخ، والمعاني، والإعراب، والغريب، والمشكل، والأحكام، وعدِّ الآي، والعبادات، والرَّقائق، وسائر المصنفات في الحديث، والمؤلفات في الفقه، من الجامعات والمختصرات، وغير ذلك من أنواع العلم وضروبه، مما قد تضمَّن ما ذكرتُه وما لم أذكرْه".

 

ويُستفاد مِن تحرير سَنَد الإجازة العلمية اتِّباع السُّنة النبويَّة؛ لأنَّ قراءةَ القرآن سُنَّة يأخذُها الآخِر عن الأوَّل مثلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأُبَيِّ بنِ كعب: ((إني أُمِرتُ أن أقرأَ عَليكَ القُرآن))[9]، وفي رواية: ((إنَّ الله أمرني أن أُقْرِئك القرآن)).

والأخبار في هذا المعنى كثيرةٌ، وفيها أعظمُ دليل على إثبات السُّنة بالقراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن بعده من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين.

 

ومِن أهمِّ العلوم التي أضافها الشَّاطبي إلى علم القراءات في فترة تَعلُّمه.

علم الحديث: وقد أخذه عن ابن الهُذيل صاحبِ القراءاتِ، وعن محمَّد بن أبي يوسف بن سعادة الصَّدفي، وعن الشيخ أبي محمد عاشر بن محمد بن عاشر، عن أبي محمد عبدالله بن أبي جعفر المرسي، وغيرهم.

علم التفسير: وقد أخذه عن أبي الحسن بن نعمة صاحب كتاب (ري الظمآن في تفسير القرآن)، وعن أبي القاسم حبيش.

علم النحو: وقد أخذه عن أبي عبدالله محمد بن حميد، الذي قرأ عليه كتابَ سيبويه في النحو.

علم اللغة: وقد أخذه أيضًا عن ابن حميد، فقرأ عليه الكامل للمُبَرِّد، وأدب الكاتب لابن قتيبة.

 

تلاميذه:

لَمَّا دخل مصر أكرمَه القاضي الفاضل، وعرف مقدَاره، وتصَّدر الإقراء بالمدرسة الفاضلية؛ فنظم قصيدته اللامية والرَّائية، وقصَدَه الخَلائق من الأقطار وذاع صيتُه.

كان يصلِّي الصبح بغلس بالفاضلية، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السَّرْيَ إليه ليلًا، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أوَّلًا فليقرأ، ثم يأخذ عليَّ الأسبق فالأسبق.

 

ولعل من أشهر تلاميذه بلا منازع علي بن محمد بن عبدالصمد بن عبدالأحد بن عبدالغالب بن عطاس، علَم الدِّين أبو الحسن الهمذاني السَّخاوي المقرئ المفسِّر النَّحوي اللُّغوي الشَّافعي شيخ مشايخِ الإقراء بدمشق (557-743هـ)، أخذ القراءاتِ على أبي القاسم الشَّاطبي، وبه انتفع وتأثَّر، ويظهر ذلك جليًّا في مصنفاته؛ حيث ألَّف من الكتب: (فتح الوصيد في شرح القصيد)، وهو شرحٌ للشاطبيَّة، وشرح الرَّائية[10] سمَّاه: (الوسيلة إلى شرح العقيلة)، وله كتاب: (جمال القُراء وكمال الإقراء)، وكتاب (المفضَّل في شرح المفصَّل)، وكتاب: (التفسير)، وكتاب: (القصائد السبعة في مدح سيد الخلق محمد صلَّى الله عليه وسلم)، توفي سنة 743هـ[11].

 

مؤلفاته ومناقبه:

كان الإمام الشاطبي يتوقَّد ذكاءً، له الباعُ الأطول في القراءات والرَّسم والنَّحو والفقه والحديث؛ ألَّف في ذلك متونًا ممتعةً، بَدَت فيها غزارةُ عِلمِه، ورجاحةُ عقله، وعُلُوُّ منـزلتِه، فلمَّا تصدَّر مصر عظُم شأنُه، وبعُد صيتُه، وانتهت إليه رئاسةُ الإقراء، (كان إذا قُرئ عليه الموطَّأ والصَّحيحان تُصحَّح النَّسخ من حفظه؛ حتى كان يقال: إنَّه يحفظ وقْر بَعير من العلوم؛ له من التآليف:

♦ نظم الشاطبيَّة، وهي حِرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السَّبع.

 

♦ عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد، وهي في الرَّسم، نظم فيها (المقنع[12]) لأبي عمرو الدَّاني رحمه الله في الرَّسم وزاد عليه، وهي- العقيلة - مائتان وثمانية وتسعون بيتًا.

♦ ناظمة الزُّهر في أعدادِ آيات السُّور، وهي في عدِّ المصحف وعلم الفواصل.

♦ وله قصيدة داليةٌ في نحو 500 بيت، نظم فيها كتاب التمهيد لابن عبدالبر[13].

 

كان الشاطبي إمامًا ثبتًا حجةً في علوم القرآن والحديث واللغة، كما كان آيةً من آيات الله في حِدَّة الذِّهن، وحصافة العقل، وقوةِ الإدراك، مع الزُّهد والوِلاية، والورع والعبادة، والانقطاع والكَشْف، شافعيَّ المذهب مواظبًا على السُّنة، لا يجلس للإقراء إلا على طهارة، وكان يمنع جلساءه من الخوض إلا في العلم والقرآن، وكان يعتل العلَّة الشديدة، ولا يشتكي ولا يتأوَّه، وإذا سُئل عن حاله قال: العافية، لا يزيد على ذلك، قال الحافظ الذهبي[14]: "كان كثيرًا ما ينشد هذا اللغز في نعش الموتى":

أتعرف شيئًا في السماء نظِيرُهُ 
إِذا سار صاح الناسُ حيثُ يسِير 
فَتَلْقَاهُ مركُوبًا وتلقاهُ راكِبًا 
وكُلُّ أمِيرٍ يعتلِيهِ أسِيرُ 
يحُضُّ على التقوى ويكرهُ قُربه 
وتنفرُ مِنه النفسُ وهو نذِيرُ 
ولم يستزِر عن رغبةٍ في زيارةٍ 
ولكنْ على رغم المزورِ يزُورُ 
 

ذكر تلميذُه أبو الحسن السَّخاوي شيئًا ممَّا نظمه الإمام الشاطبي في الشِّعر والمتون العلمية؛ من ذلك قولُه في موانع الصَّرف:

دعوا صرفَ جَمْعٍ ليس بالفرد أشكلا 
وفعلان فعلى ثم ذي الوصف أَفعَلاَ 
وذِي ألِف التَّأنيث والعَدْلِ عُدَّهُ 
والاعْجم في التَّعريف خُصَّ مُطَوّلا 
وذو العَدْلِ والتركيبِ بالخُلْفِ والذي 
بوَزنٍ يَخُصُّ الفعلَ أو غَالب عَلا 
ومَا أَلِفٌ مَعْ نُونِ أخْرَاهُ زِيدتَا 
وذُو هَاءِ وَقْفٍ والمُؤَنَّثُ أثقَلا[15] 
 

وفيها موانعُ الصَّرف في الأحوال الآتية:

أ- صيغة منتهى الجموع، وضابطه كلُّ جمع تكسيرٍ مفتوح أوله وثالثه ألف زائدة ليست عوضًا، بعدها حرفان، أو ثلاثة أوسطُها ساكن.

ب- ما جاء على وزن فعلان، ومؤنثه على وزن فَعْلى؛ مثل: سكران سكرى.

ج- ما جاء من الصِّفات على وزن أفعل؛ مثل: أحمر وأبيض.

د- ما فيه ألفُ التَّأنيث مطلقًا؛ مقصورةً كانت أم ممدودة؛ مثل: ذِكرى، صحراء.

هـ-الوصفية مع العدل، وهو أن يكون الاسمُ أحدَ الأعداد العشرة الأولى، وصيغتُه فعال أو مفعل.

و- العلم الأعجمي؛ مثل: إبراهيم.

ز- المعرفة المعدولة؛ مثل: عمر.

ح- المُركَّب تركيبًا مزجِيًّا؛ نحو: حضر موت في العَلَم بوزن الفعل؛ نحو: يزيد، والعَلَم المختومُ بألف ونون؛ نحو: رمضان، تلمسان، وما آخره هاء وقفًا؛ نحو: فاطمة، أو عَلَم لمؤنث غير مختوم بهاء؛ نحو: زينب.

 

ومن شعره رحمه الله[16]:

ألم ترَ أن الدِّين يندُب أهلَه 
غريبًا شديدًا واحدًا دُون صاحبِ 
إذا عدد القرآن تُتلى حروفُه 
وينسى حدُودًا كُل أفقٍ وجانبِ 
يقول ألستُم تُؤمنون بربكم 
مُنزِّل آياتِ الكتابِ العجائبِ 
فما لكُمُ عنها عروضًا فعالُكُم 
ولا بُدَّ من عرضٍ على الله حاسبِ 
لمن يترُك القراءُ وردَ فُراتِه 
وُرُودًا من الدُّنيا أُجاج المشاربِ 
 

إلى قوله:

ولو سمع القراءُ حين اقترافِهم 
لفي آل عمرانٍ كنُوزُ المطالبِ 
بها ينظُرُ الدُّنيا بعين احتقارِها 
فقيه المعاني غير عاني الذَّوائبِ 
تمشَّت من الدُّنيا كُؤُوس خداعِها 
فما كأس إلا صائم غير شاربِ 


كان الإمام زاهدًا في شعره حكيمًا يستصغر الدُّنيا، ويهجرها ويحتفي بالعلم ويمجده، ومن شعره في هذا المقام:

ولا بُدَّ من مالٍ به العلم يعتلي 
وجاه من الدُّنيا يكُفُّ المظالمَا 
إلى الله أشكُو وحدتي في مصائبي 
وهذا زمانُ الصَّبر لو كُنت حازمَا 
وكم زفرةٍ تحت الضلوع لَهيجُها 
حكيمٌ يبيعُ العلمَ بالجور حاكمَا 
وكان جنابُ العلم يسمُو بأهلِه 
إلى طيب أنفاسِ الحياة نواسمَا 
يرُدُّون من درّت لهُ زهرةُ الدنا 
إلى نُجعة الأُخرى فيرتادُ حائما 
نعت لهُ هماتُهُم شهواتهم 
فليس لهُم إلا رضا الله سائما 
 

إلى قوله:

أُولئك أقوامٌ بهمْ قامت العُلا 
أقامُوا لإجلال العُلُوم مقاومَا 
وللعلم أعلامٌ تبيّن أهله 
وخشيتُهُم لله تهدِي العوالمَا 
وما يعقلُ الأمثالَ إلا قلوبُهُم 
إذا ضُربت للعالمين دعائمَا 
وهُم شُهداءُ الله لله مَعْهُ وال 
ملائكُ بالتوحيد بالقسط قائما 

 

ثناء العلماء عليه:

كان الإمام الشاطبي رحمه الله - كما وصفه تلميذُه أبو الحسن السَّخاوي - عالمًا بكتاب الله؛ بقراءتِه وتفسيره، وعالمًا بحديث رسولِ الله مبرزًا فيه، وكان إذا قُرئ عليه البخاري ومسلم والموطَّأُ يُصحِّح مِن حفظه، ويملي النكت على المواضع المحتاج إلى ذلك فيها.

 

قال: وأخبرني أنَّه نظم في كتاب التمهيد لابن عبدالبر رحمه الله قصيدةً داليةً في خمسمائةِ بيتٍ، مَن حفِظَها أحاط بالكتاب علمًا، وكان مبرزًا في علم النَّحو والعربية، عارفًا بعلم الرؤيا، حسنَ المقاصد، مخلصًا فيما يقول ويفعل[17].

وقال ابن خلكان: "وكان يجتنب فضولَ الكلام، ولا يتكلَّم في سائر أوقاتِه إلا بما تدعو إليه ضرورةٌ، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة، في هيئة حسنةٍ، وخضوعٍ واستكانة، ويمنع جلساءه من الخَوض والحديث في شيءٍ إلا في العلم والقرآن[18].

 

قال ابن الجزري رحمه الله: كان الشاطبي أعجوبة في الذَّكاء، آيةً من آيات اللهِ، مواظبًا على السُّنة، وقال: بلغنا أنَّه وُلد أعمى.

وقال ابن كثير رحمه الله: كان دَيِّنًا خاشعًا ناسكًا كثيرَ الوقارِ، لا يتكلَّم فيما لا يعنيه.

 

وقال الحافظ الذَّهبي رحمه الله: "واستوطن مصر، واشتهر اسمُه، وبعُد صيتُه، وقصده الطلبة من النَّواحي، وكان إمامًا علَّامةً ذكيًّا كثيرَ الفنون، منقطعَ القرين، رأسًا في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، واسعَ العلم، وقد سارت الرُّكبان بقصيدته، وحفِظَها خلقٌ لا يحصون.

 

قال السخاوي: "قال لي يومًا: (جرت بيني وبين الشيطان مخاطبةٌ، فقال لي: فعلت كذا فسأهلكك: فقلت له: والله ما أبالي بك".

وكان رحمه الله يعذل أصحابه في السِّر على أشياءَ لا يعلمها منهم إلا الله عز وجلَّ، وكان يجلس إليه من لا يعرفُه فلا يرتاب في أنَّه لا يُبصر؛ لأنَّه لذكائه لا يظهر منه ما يظهر مِن الأعمى في حركاته.

 


وفاتـه:

روى عنه أنه رأى النَّبي في المنام، فقام بين يديه وسلَّم عليه، وقدَّم قصيدته الشاطبية إليه، وقال: يا سيدي يا رسول الله، انظر هذه القصيدة فتناولها النبي بيده المباركة، وقال: هي مباركةٌ، مَن حفظها دخل الجنةَ، وزاد القرطبي: بل مَن مات وهي في بيته دخل الجنة[19].

وكان رحمه الله يقول: (لا يقرأ أحدٌ قصيدتي هذه إلا وينفعه اللهُ بها؛ لأنني نظمتُها لله سبحانه).

 

وقد طاف حول الكعبة كثيرًا، وهو يدعو لمن يقرؤها فيقول:

(اللهم فاطر السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، ربَّ هذا البيت العظيم، انفع بها كلَّ مَن يقرؤها).

 

وتوفي رحمه الله يوم الأحد بعد صلاة العصر، وهو اليوم الثامن بعد العشرين من جمادي الآخرة سنة تسعين وخمسمائة 590هـ، ودفن يوم الاثنين بمقبرة القاضي الفاضل بالقرافة الصُّغرى بالقرب من سفْح الجبل المقطَّم بالقاهرة، وصلى عليه أبو إسحاق المعروف بالعراقي، إمام جامع مصر يومئذ، وتعرف تلك الناحية بسارية، وقبره معروف إلى الآن تغمده اللهُ برحمته الواسعة