فن تمحيص الشعارات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أهل النفاق من قديم وإلي قيام الساعة ينتهجون ذات المنهج، ويسلكون ذات المسلك، ويتخذون ذات الشعارات، وإن تغيرت الألفاظ فصفاتهم هي ذات الصفاتº قال - تعالى -: {المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَات بَعضهم مِن بَعض يَأمُرُونَ بِالمُنكَر وَيَنهَونَ عَنِ المَعرُوفِ ِوَيَقبِضُونَ أَيدِيهم نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنَافِقِينَ هُم الفَاسِقُونَ}فهم يسَعون دائماً لاستغفال الأمم والشعوب، بالظهور خلف لافتاتٍ, وشعاراتٍ, برّاقةٍ, ورائعةٍ, ملؤُها الخير والصلاح، ويدّعُون دوماً أنّهم يُريدُون الحُسني، كما بيّن الله في شأنهم، عندما تحاكموا إلي الطاغوتº فكان اعتذارهم أن قالوا كما حكي الله عنهم، أنهم أرادوا الإحسان والتوفيق، قال - تعالى -: {فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِم ثُمَّ جَاءُوكَ يَحلِفُونَ بِاللَّهِ إِن أَرَدنَا إِلَّا إِحسَانًا وَتَوفِيقًا}، وهم أبعدُ الخلقِ عن الخير والإصلاح وإرادةِ الإحسانِ والتوفيقِ.

 

وفي زماننا هذا لا يخفي على أحدٍ, كثرةُ الشعاراتِ المرفوعةِ والمُدّعاةِ من هنا وهناك، ومن كل الجهات أفراداً وجماعات وأحزاباً ومنظمات (محلية وعالمية) ومن الدول بل وحتى من الأمم، وغالبها - إن لم نقل كلّها تحتاج إلي تمحِيصٍ, وتدقيقٍ, ونظرٍ, بعين ثاقبةٍ, فاحصةٍ, ومتأنيةٍ,.

 

فكلٌ يدعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تُقرُ لهم بذاكا

 

فكيف السبيل إلي جلاءِ الحقيقة وكشف سوءات الشعارات؟.. إنّه منهجُ القرآن الذي يعلّمنا فيه ربنا جل جلاله منهجاً لتمحيص الشعارات، فالمسلم فطِنٌ ذكيُّ لا يُؤخذ علي غرةٍ, ولا تنطلي عليه الحِيل بل هو موطّنٌ لنفسه، لا تخدعه الشعارات ولا يُغريه زيفُها وزُخرُفُها، وإن خرجت بثوبٍ, قشيبٍ,.

 

ومنهج تمحيص الشعارات مُسطّر في كتاب الله - عز وجل -، في آيةٍ, نَمُرُ عليها فلا نتدبر ولا نتمعن، ولكن من ألهمه الله أن يتفيئ ظلال القرآن، وأن يعيش في كنفهº أدرك سرّ الآية ولحَظ طريقتها الرائعة في العرض واللفتات الدقيقة في المعني فتفطن فإنّ معانيها دقيقة.

 

الآية في سورة التوبة، وسبب نُزولها أنّ بني عمرو بن عوف لمّا بنَوا مسجدَ قباء سألوا النبي صلي الله عليه وسلم أن يصلي معهم، فحسدهم إخوانهم من بني غنم بن عوف، فبنى أثنا عشر رجلاً منهم مسجداً عُرِف بمسجدِ الضرار، قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسجِدًا ضِرَارًا وَكُفرًا وَتَفرِيقًا بَينَ المُؤمِنِينَ وَإِرصَادًا لِمَن حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبلُ وَلَيَحلِفُنَّ إِن أَرَدنَا إِلاّ الحُسنَى وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ}.

 

هذه الآية الكريمة العظيمة موجهة لكل البشر(ذكر وأنثى، صغير وكبير، عالم وجاهل.. الخ)لهم جميعاً، وتعتبر منهجاً لتمحيص الشعارات، إذ تجعل لكلِ امرئٍ, عاقلٍ, إدراكاً عميقاً، ووعياً عالياً، ونظرةً ثاقبةً، وعيناً فاحصةً، وقريحةً مُمعنةً في النظر والتدقيق، فها هي الآية تعرِض المنهج غضاً طرياً وواضحاً سهلاً، فخذه بذات العرض واضحاً وغضاً سهلاً.

 

صوّرت الآية حال أولئك النفر من المنافقين، وكأنّهم يُلوحُون ويرفُعون شعاراً ما اسمه؟ إنّه المسجد.. وما أدراك ما المسجد؟ (تُقام فيه الصلواتُ، وينادي فيه بالآذان، وتُعقد فيه ألويةُ الجيشِ، وتُجمع فيه أمُوال الزكاة، وتُرّبي فيه النفوس علي الإيمان وتُهذَب وتُعلّم، وتُستقبلُ فيه الوُفود)، فهو مركز للحياة برُمتِها، شعارٌ هذا شأنُه، وتلك مكانته لا يُظنٌّ فيه إلا الخير والصلاح والتقوى والإحسان، ولا يتصور بشر، ولا يخطر بباله بل ولا يصدق إن ذُكر له أنّ هذا الشعار يحمل بين جنباته وفي طيّاته هذا الحقد الدفين، والخبث والمُكر، وذاك الإِمعان في الإضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد- الإعداد- لحرب الله ورسوله، وبمسجد؟!!! نعم، وبمسجد... حتى تتعلم فنّ تمحيص الشعارات، قال تعالي {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسجِدًا ضِرَارًا وَكُفرًا وَتَفرِيقًا بَينَ المُؤمِنِينَ وَإِرصَادًا لِمَن حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبلُ}. هؤلاء المنافقون أرادوا أن يَدُسّوا السٌّمَ [الضرار، والكفر، والتفريق، الإرصاد] في العسل [ببناء المسجد] ولكنّ ربّ العِزة والجلال، يقول لنا معلماً إيّانا لا تُغرنّكم ولا تخدعنّكم الشعارات لأولِ وهلةٍ,، وإن كان ظاهرُه يدّل علي حسنه وخيره، فلابد من تمحيص للشعار، حتى لا نسيرُ خلف كل ناعقٍ, ولا نلهث وراء كل رافع للشعارات.

 

أخي الحبيب، دلالة أخرى تُصورها لك الآية، وهي أنّ مُنتحلي الشعارات دَيدَنهم تغليظ الأيمان بأنهم ما أردوا من شعارهم هذا إلا الحسني، لكن الله - عز وجل - يهتك أستارهم، ويكشف سُوء طويتهم، ويخرج خبايا صدورهم، قال - تعالى - {وَلَيَحلِفُنَّ إِن أَرَدنَا إِلَّا الحُسنَى وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ}، فلا تخدعنّ وإن حلفُوا بأنهم يُريدون الحسنى، فلا يكون حلفُهم مانعاً لك من تمحيص الشعارات بل مزيداً من التمحيص.

 

ودلالة ثالثة أن أصحاب الشعارات الزائفةº غالباً ما يسَعون لتجميل صورتهم القبيحة - رغم الشعارات البرّاقة- بالشخصيات الاجتماعية ذات النفوذ المالي والالتزام والتمسك بالشرع، حتى تكون لهم واجهة يخدع بها عوام الناس، وهذا منهج المنافقين من قديم، فعندما فرغوا من بناء مسجدهم شعارهم - أتوا النبي صلي الله عليه وسلم خير البشر وحبيب المؤمنين- وهو يتجهز لتبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية -أنظر حسن مظهر الشعار- وإنا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعوا لنا بالبركة -أنظر قصد خدع وتضليل ا لعوام والجماهير-قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم  - إنّي علي جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما قفل راجعاً إلى المدينة ولم يبقَ إلا يوم أو يومين، نزل جبريل بالآية- انظر كيف أرادوا أن يمرروا مخططهم عبر النبي - صلى الله عليه وسلم- لكن الله - عز وجل - عصمه.

 

وبقيت نقطة أخيرة ومهمة وهي كيف أُمحص الشعارات؟ الجواب اختصاراً:

 

• سل الله العون والتوفيق لمعرفة ما اختُلف فيه من الحق، فمن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

• اشحذ بصيرتك بالطاعة وغض البصر، والكف عن الحرام، فمن طعم الحلال، وغض بصره لم تخطئ له فراسة.

• اعرف حقيقة الفكرة الشعار- مِن المصدر، لا من المنتسبين إليه، ادرس وتأمل في الشعار هل يوافق الحق، ولا يغرنك من يحمل الشعار وصلاحه، وكما قال الأمام علي رضي الله عنه: اعرف الحق تعرف رجاله.

• اعط حملة الشعار التفاتة خفيفة، فمن رسخت قدمه في معاداة الحق، ونشطت نفسه لمحاربة الدعاة، لا يتوقع أن يصبح سيفاً من سيوف الله بين ليلة وضحاها، وقد قيل من قبل:

مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب دينا.

 

ولكن احذر أن يصدك هذا عن قبول الحق من أي وعاء صدر.

 

فإن كُنت ممن أثلجَ الله صدرهُ، وأنَار قلبهُ ببردِ اليقين فلا تعدل بمنهج تمحيص الشعارات بديلاً، وكُن فطناً ذكياً لا تُؤخذ علي غرة، ومحص الشعارات برويةٍ, وأناة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply