أسرار المحادثة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يمكن لأي تطوير تربوي أن يشق طريقه إلى الأمام ما لم يكن هناك استقرار تربوي، وهذا الاستقرار التربوي لا يمكن توافره دون الأخذ بأسباب الاستقرار النفسي، وإليكم جميعاً أورد هذا الدليل:

وقفت أمامهم في المحاضرة الأولى بعد تحيتهم، وقد كانوا طلاباً يقارب عددهم السبعين طالباً في القاعة أي حوالي مائة وأربعون عيناً تنظرني... لأول وهلة غامرني شعور بأنني أقف أمام طلاب من كوكب آخر، وكانوا يحدقون بي وقد تحفز كل منهم لرسم صورةٍ, لتلك المرأة التي جاءت لتعلمهم هذا المساق وقد ارتدت الجلباب الفضفاض الطويل وغطاء الرأس.. نظرت إليهم بنظراتٍ, هادئة متفحصة لأتعرف على وجوه طلابي، فوجدتهم وكمن ينظر إلى المجهول...

بدأت بتعريفهم على نفسي أولاً وبأنني موجودة لتدريسهم مساق المحادثة(1) Conversation(1) باللغة الإنجليزية، وأوضحت لهم أهمية هذا المساق ودراسته وأننا بحاجة للتكلم بالإنجليزية أكثر من أي شعب آخر فهي لغة محورية عالميا ومن خلالها يمكننا أن نعبر عن رأينا وعن قضيتنا وعن مشاعرنا، في حين لا يمكن لأحد آخر أن يقوم بدورنا.

تدرجت بعدها في الحديث وقلت لهم إنني لا أتوقع منهم ألا يخطئوا... فمن لا يخطىء لا يتعلم وكلنا يخطىء، ودعوتهم للتحدث بالإنجليزية طيلة المحاضرة وعدم الخوف من الوقوع في الخطأ حتى يتسنى لي القيام بدوري بشكل فعال، وأن هذه هي بداية التصويب وبداية الصواب... بدأ الطلاب بعدها بالتجاوب في المحاضرة تدريجياً وشعرت بأنني قد فعلت شيئاً ما لتحفيزهم على ذلك. تتالت وتوالت المحاضرات، الواحدة تلو الأخرى، وكان الطلاب يشاركون في كل محاضرة بشكل أفضل من المحاضرة السابقة..

كان الطلاب يحاولون الانتظام في كل شىء وكانوا يأتون إلى الجامعة رغم الحواجز ورغم مخاطر الطريق ورغم ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وجاء الامتحان النصفي وأظهر لهم ولي مستوياتهم المختلفة.. كان ذلك أمراً عادياً لم يكن به أي شيء من الغرابة لكن أسرار المحادثة(1) ظهرت وكانت مفاجئة جداً لي حين طلبت منهم أن يجهز كل منهم بمفرده (small talk) يتكلم فيه عن أي موضوع يختاره هو، فقد يكون ذلك خبرة سابقة أو حادثاً مؤثراً عن نفسه أو عن عمله..

كان هدفي الأول من ذلك هو كسر حاجز الرهبة والخوف داخل الطالب والذي يشعر به تجاه اللغة الإنجليزية، وإليكم ما كان:

- تحدث أحد الطلبة بالإنجليزية أمام الطلاب (زملائه) عن شعوره الحزين بعد دراسة عامٍ, في كلية الهندسة في العراق وعن رحلته المريرة الشاقة في طريق عودته من بغداد إلى غزة مروراً بالأردن والتي لم يستطع بعدها الرجوع لاستكمال دراسته هناك.

- وتحدث أحدهم عن إحباطه الشديد عندما وجد نفسه في أحد العواصم الأوربية مع المنتخب الرياضي وهو لا يستطيع التخاطب مع ذلك الشعب بلغته أو التحدث باللغة الإنجليزية، ونصح زملاءه الطلاب بضرورة تعلم اللغة الإنجليزية وقال لهم: \"حتى عندما فرحت ووجدت إخوة من بلاد المغرب العربي وحدثونى وظننت أنني وجدت ضالتي(خاصة وأنني كنت قد ضللت الطريق إلى محطة القطارات) لم أفهم لهجتهم وقلت لهم: \"حدثوني باللغة العربية فقالوا له: نحن نتكلم معك باللغة العربية!\"

- تحدث أحدهم عن التدخين ومضاره للجسم والرئتين وأن والده قد توفى بسرطان الرئة من جراء تدخينه المفرط، ونصح زملاءه بالابتعاد عنه لأنه يهدر المال والصحة.

- تحدث أحدهم عن مأساته كونه يسكن بجوار أحد المستعمرات وكيف ينغص ذلك عليه حياته في مشواره إلى الجامعة كل يوم وعن معاناته وأسرته ليلاً إذ لا ينامون من الخوف وصوت دوي الرصاص.

- تحدث أحدهم عن أهمية استخدام الكمبيوتر ومزاياه وتحدث عن مساويء استخدامه وأنه سلاح ذو حدين.

- أحد الطلاب كان هادئاً طيلة الفصل الدراسي، وعندما جاء دوره في المحادثة وتكلم دمع قلبي حزناً، فقد كان والده يعمل في أحد دول الخليج العربي وأنه أثناء وجود جميع أفراد العائلة في غزة، بقى الوالد ليعمل هناك ويرسل ما يكسبه لأهله، وكيف أن والده نام ذات ليلة وحيداً فحدث ماس كهربائي في الغرفة أصبح على إثره والده محترقا وميتاً... نعم... احترق في غرفته.. في غربته.. وحيداً.. وكانت تلك ضريبة مضافة يدفعها شعبنا إلى جانب ضريبة البعد عن ثرى الوطن.

- أحد الطلاب نشأ في الأردن ورجع إلى غزة.. وتمكن في مدة عامين من حفظ القرآن الكريم كاملاً.. وقال لهم إنه شفاء للقلوب والعقول..

- أحد الطلاب(وكان أكثرهم شغباً) وقف ليتكلم في دوره.. كنت أشعر أنه أصغرهم بل وكأنه المدلل فيهم لا تفارقه الابتسامة أو الضحكة ويتدخل في كل الأمور.. ولكن عندما وقف أمام الجميع أحسست بأن أمامي رجلاً عجوزاً يحمل كل هموم الدنيا.. اختفت ابتسامته وفوجئنا جميعاً به وهو يتحدث بصوت جدي وهادئ ويقول إنه يعول أسرة كبيرة مكونة من أمه وإخوته العشرة بعد وفاة أبيه وأنه يعمل ويدرس في آن واحد!!

- أحد الطلاب تحدث عن انقطاعه فترة طويلة عن الدراسة في الجامعة لرقوده في المستشفى إثر إصابة أعاقته عن الحراك.

- كان معظم الطلاب أبناء لآباء يعملون في الخارج وقد أجبرتهم الظروف على الرجوع إلى ديار الوطن والاكتفاء بأقل القليل.

مهما كان حديثهم فقد كان مثيراً ومؤثراً.. كانت للأغلبية منهم قصة واقعية تنبض بالصدق والألم معاً، وقد وجدت نفسي أدربهم على المحادثة وأصحح لهم أخطاءهم وأعالجهم نفسياً من خلال تفريغهم لمعاناتهم وحديثهم عن إحباطا تهم.

أسرارٌ لم أكن أتوقع منهم البوح بها وهم الشباب رمز القوة والتحمل والجَلَد، وربما لوجود طريقة غير مباشرة مثل استخدام لغة غير لغتهم سهل عليهم هذا الأمر. وقد لوحظ أن أحاديث الطلاب خلت من عناصر هامة يحتاجها أي إنسان يعيش في هذا الكون لاستمرار حياته وهي:

الشعور بالاطمئنان والبهجة والفرحة والأمل.

بل وكأن أحاديثهم قد رشحت برواسب من الحسرة والألم والمعاناة فكأن أحدهم يقول: لا أستطيع أن أخطط ليومي، وإن فعلت، فلربما ينطفىء ضوئي قبل أن تغيب شمس ذلك النهار.

وجدته شيئاً مفيدا على جميع الأصعدة لهم كأفراد وجماعات ولي أيضاً.. كأفراد أي كطلاب: عَبر كل منهم عن شيءٍ, ما بداخله، ولربما وجده متنفساً له ولزملائه فيستمعون له، ويسألونه ويناقشونه.

و لي: أحدد مستواهم وأعرف نقاط ضعفهم في استخدام اللغة وأصوب أخطائهم واحدد مواقع مشاكلهم النفسية، ولا أخفي عليكم أنني كنت أحس بارتياحهم وهم يتحدثون، وكأن الطالب منهم كمن يستعيد ثقته بنفسه أو كمن أُعيدت له روح القيادة أو كمن استخرج ألما لطالما جثم على قلبه فاستراح منه.

بعض الطلاب لم يكن بمقدوره أن يقف أمام الآخرين بمفرده فجعلت أولئك يقومون بمحادثات ثنائية حتى لا يحرمون من دورهم، وقد حاولت تبسيط الأمور بشكل كبير لهم، ولكن دهشت حين وجدتهم يجدون في ذلك عبئاً كبيراً عليهم، لا بل وسألني أكثر من طالب منهم أكثر من مرة عن كيفية المحادثة وعن أدوارهم ولكن بالطبع كنت اكتم دهشتي.

كان الطالب منهم يبدي ارتياحاً كبيراً ويتنفس الصعداء بعد انتهائه من دوره.. الأمر الذي جعلني أتساءل: هل يحدث ذلك لأنهم طلابنا في هذه المنطقة من العالم؟ هل لدى الطلاب الآخرين سواءً في الشرق أو الغرب مثل تلك الظروف النفسية؟.

ربما نحن بحاجة لدراسة مستفيضة للتحقق من هذا الموضوع.

شيءٌ واحدٌ أزعجني، وهو تغيب عدد من الطلاب عن المحاضرات لتجنب إحراجه ولعدم استطاعته الوقوف أمام زملائه، واعتذر بعضهم عن ذلك.

أما من اعتذر فقد سمحت له بالتحدث أمامي على غير مسمع من زملائه، فاليوم يتحدث أمامي وفي المستقبل وبالتدريج يسهل الأمر عليه. ولكن.. كان الواحد منهم يبدو مضطرباً ومتلعثماً ومرتبكاً بالرغم من تهيئتي لهم جواً نفسياً مريحاً وهادئاً بل مرحاً في كثير من الأحيان.. ولكن وكأنهم كانوا يحملون أعباء جساماً على كاهلهم وتَركها هو الخلاص منها..

مع أن الطلاب عموماً أو دعني أقول معظمهم لم يكونوا يجيدون قواعد اللغة الإنجليزية وكان حديثهم يفتقر إلى المفردات اللازمة والأساسية، إلا أن ذلك لم يكن مخجلاً لهم بقدر خجلهم من وقوفهم أمام زملائهم خوفاً من الإحراج أو السخرية، لذلك فقد كنت أسارع كلما تحرج طالب أو تعثر أو شعر بأن قدرته على الاستمرار في الحديث قد استنفذت، كنت أسارع إلى مدح موضوعه وأهميته وإعطائه فرصة لاستعادة ثقته وذلك بتوجيه أنظار الطلاب إلى وصرفها عنه ثم أناقشهم في نقطة معينة طرحها أو أن أقوم مثلاً بسؤاله عن جانب من الحديث يحتاج إلى توضيح بحيث أكون أنا على علم تام بأنه الوحيد القادر على الإجابة عن هذا السؤال بسهولة ويسر.

إنني أرى أن هذا شيءٌ خطير يجب علاجه وله علاقة كبيرة في بناء شخصية الطالب (الذي سيصبح أبا لأطفال يزرع فيهم ما لم يُزرع فيه في صغره) نعم.. الشخصية التي تبدأ في مراحلها المبكرة من عهد الطفولة في مجتمع الأسرة ومجتمع المدرسة،، وله علاقة كبيرة أيضاً بأساليب التربية في مجتمعنا المحلي.

و أقول لكم شيئاً.. وهو أن طلابنا وطالباتنا في جامعاتنا بحاجة إلى جرعات من الإرشاد والتوجيه النفسي مع كل مساق، فيا أيها المشرفون التربويون ويا أيها المحاضرون في كل جامعات الوطن.. رفقاً بأبنائنا ولنصبر ونتصابر لتحقيق الهدف الأسمى.. من أجل استعادة حضارتنا العربية ومجدنا العربي اللذين لم نعد نعرفهما إلا في كتب التاريخ.

لذلك نحن بحاجة ماسة لأن نتعاون جميعاً، تربويين وعلماء نفس، لوضع الخطط وحل هذه المشكلة، لأننا الشعب الذي تصدى دوما لجميع أنواع الأزمات واثبت انه الشعب الذي لا يقهر ولا تثنبة الجراح عن الكفاح من أجل موكبة العلم والتقدم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply