القلوب الحية ... والقلوب الميتة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

سئل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: مَن ميت الأحياء؟ فقال: \"الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً\". وفي عصرنا في حياة المسلمين الدينية وأوضاعهم السياسية وطرائقهم الثقافية من المناكير ما يكفي لإيقاظ قلوب قد أصابتها غفوة أو غفلة، ولكن تلك القلوب لا تصحو، لا بسبب أنها غافلة أو نائمة ولكن لأنها ميتة، وليس موت القلوب عزوفها عن الذكر والشكر فقط، ولكن موت القلوب يكون أيضاً بالإعراض عن إنكار المنكرات، ويكون بالتجافي عن هموم الدعوة، ويكون بعدم الاكتراث بما يحاك للمسلمين من مكائد الأعداء.

 

ثمة (موضة) الآن، تدعو الناس إلى ترك قضايا المسلمين العامة والإقبال على خاصة النفس لإصلاحها وتهذيبها لضمان نجاتها، وهذا كلام قد ينظر في قبوله لو أن الداعين إليه يقبلون فعلاً على إصلاح النفس بالمعنى الشرعي المعروف، ولكن الحقيقة إن إصلاح النفس حسب مفهومهم يأتي عبر استعراض مثالب الناس، والخوض في أعراضهم، وقطع سحابات النهار وساعات الليل في قيل وقال، مادام ذلك لا تنبني عليه تبعة، ولا يطالب عليه بمسؤولية. كثيرون أولئك الذين لا يحملون للدعوة العامة هماً، راغبين بأنفسهم عن التعب لها، وكثيرون أولئك الذين لا يحبون أن يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا تراهم يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً، ولو بكلمات تنطق بها ألسنتهم، أو مواقف تحمر فيها وجوههم لله وفي سبيل الله. ومع ذلك تجد واحدهم ممتلئاً غروراً، ومحشواً عجباً، ومنتفخاً كبراً، لا يرى لأحد من عباد الله عطاءً مقبولاً، يتبرع بإحباط أعمال العاملين، وإبطال جهود المخلصين وإسقاط ما يقولون ويفعلون في أعين الناس، وهو مع كل ذلك يظن أنه بما يسميه (إصلاح النفس وتربيتها) صاحب ديانة، وممن يحسنون صنعاً.

 

يقول ابن القيم - رحمه الله - عن هذا النمط العجيب الموجود في كل زمان: \"وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات يعني إقامة الحق والأمر بالمعروف والجهاد فلم يُحدثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي، فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهاً... ومن له خبر بما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه و سلم - وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً والله المستعان. وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكن اللسان، شيطان أخرس! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل، وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثراً، أن الله - سبحانه - أوصى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه يوماً قط\". وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد أن الله - سبحانه - أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان الزاهد، أما زهدك في الدنيا، فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب، وأي شيء لك علي؟ قال: هل واليت في ولياً، أو عاديت في عدواً\" [1].

 

انتهى كلامه - رحمه الله -، وهو لا يحتاج إلى تعليق أو زيادة، وإنما ندعو الله بعده، سائلين إياه - سبحانه - أن يجعلنا ممن يوالون أولياءه ويعادون أعداءه، ويغضبون لحرماته، حتى نكون من أصحاب القلوب الحية لا من أصحاب القلوب الميتة.... اللهم آمين....

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply