في فاتحة سورة التحريم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم معاتبًا إياه، بسبب تحريمه على نفسه ما أحله الله له، ومما أنزله عليه في ذلك، قوله تعالى: { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } (التحريم:4) .
والآية الكريمة قد يبدو فيها إشكال من جانب اللغةº وذلك أن الخطاب في الآية جاء بصيغة التثنية، في قوله: { تتوبا } في حين أن المضاف إلى المخاطب قد جاء بصيغة الجمع، وهو قوله تعالى: { قلوبكما }º وقد يبدو للوهلة الأولى، أن الأصح أن يقال: ( قلباكما ) بصيغة التثنيةº لأنه يعود على المخاطب وهو مثنى. فكيف أضيف الجمع ( القلوب ) إلى المثنى ؟ هذا هو وجه الإشكال كما يبدو للبعض .
وحل ما يبدو من إشكال في هذه الصيغة، إنما يكون بالرجوع إلى لسان العرب، وقواعد اللغة .
والقاعدة عند أهل العربية في هذا الباب: أن كل جزأين أضيفا إلى صاحبيهما، وكانا مفردين من صاحبيهما - بمعنى أنه لا يوجد لهما ثان من جنسهما، كالقلب، والظهر، والبطن _ جاز فيهما ثلاثة أوجه: الأحسن الجمع - وعليه جاءت الآية - ويليه الإفراد، ويليه التثنية، فأنت تقول: ( قطعت رؤوس الكبشين ) على الجمع، وهو الأفصح والأصوب لغةº ولك أن تقول: ( قطعت رأس الكبشين ) على الإفرادº ولك أن تقول أيضًا: ( قطعت رأسي الكبشين ) على التثنية .
وهذه القاعدة إنما تنتظم في الأشياء المتصلة، والتي هي جزء من كلٍّ,º كالرأس من الجسد، والقلب من الإنسان، ونحوهماº أما ما كان منفصلاً، ولم يكن جزءًا من كل، فلا تستقيم فيه هذه القاعدةº فلا يصح لك أن تقول: رأيت أفراسهماº ولا أن تقول: ضربت غلمانهماº بل الصواب أن تقول هنا: رأيت فرسيهماº وضربت غلاميهماº لأن كلاً من الفرس والغلام شيء مستقل بنفسه، وليس جزءًا من كل .
وبحسب هذه القواعد، أجاب المفسرون على ما يبدو من إشكال في هذا اللفظ، فقالوا: كل شيء يوجد من خلق الإنسانº كالرأس، والظهر، والقلب ... إذا أضيف إلى اثنين جُمع، فأنت تقول: قبَّلتُ رؤوسهما، وأشبعت بطونهما، وأوجعت ظهورهماº فـ ( الرأس ) و( البطن ) و( الظهر ) لما أضيفت إلى ضمير التثنية ( هما )، جاء المضاف بصيغة الجمع، ( الرؤوس، البطون، الظهور )، فقالوا: رؤوسهما، وبطونهما، وظهورهماº وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما }º قالوا: وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك، أن يعبروا بلفظ الجمع مضافًا إلى ضمير المثنىº لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام، فهما يتبادلان .
ومما ذكروه من تعليلات في هذا الباب: أن الإتيان بصيغة الجمع دون صيغة التثنية، إنما كان تجنبًا لاجتماع تثنيتين في كلمة واحدةº ففي الأمثلة السابقة، يصح أن تقول: قبَّلتُ رأسيهما، وأشبعت بطنيهما، وأوجعت ظهريهماº لكن في هذا الاستعمال ثقل في اللفظ، فعدلوا عنه إلى صيغة الجمع، تخلصًا من ثِقَل التلفظ بصيغة التثنية. وهذا أمر معهود في لغة العرب، حيث يعدلون عن استعمال صحيح إلى استعمال أصح منهº طلبًا للخفة، وتحريًا لسهولة اللفظ .
وبما أن القرآن قد نزل بلغة العرب، وعلى وفق لسانها في التعبير والبيانº فقد جاء لفظ الآية الكريمة { قلوبكما } جريًا على الأفصح من كلامهم، حيث وضع الجمع موضع المثنى، استثقالاً لمجيء تثنتين في كلمة واحدة، كما لو قيل: ( قلباكما ) .
ومما جاء في السنة النبوية على هذا الأسلوب، قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين رأياه يمشي مع صفية زوجته رضي الله عنها، ولم يكونا يعلمان أنها زوجته: ( وإني خشيت أن يُقذف في قلوبكما ) متفق عليه، فلم يقل لهما: ( قلباكما ) بصيغة التثنية، وإنما جاء به على صيغة الجمع، فقال: ( قلوبكما ) .
وعلى هذا الأسلوب أيضًا، جاء في الشعر قول خطام المجاشعي :
ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين
فقد جمع الشاعر في هذا البيت بين مثال التثنية، في قوله: ( ظهراهما )º وبين مثال الجمع، في قوله: ( ظهور الترسين ) .
إذن، فاللفظ في الآية سليم مستقيم لا إشكال فيهº وفصيح صحيح جار على وفق لسان العربº وإنما الإشكال في عدم فهم كلام العرب، وعدم معرفة أساليبهم في البيان والتبيان .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد