وقال: كان فيهم نَفَرٌ من مُزينة منهم خُزَعي بن عبد نُهم, فبايعه على قومِهِ مُزَينة، وقدم معه عشرةٌ منهم, فيهم: بلال بن الحارث، والنٌّعمان بن مُقرِّن، وأبو أسماء، أسامة، وعبيد الله بن بردة، وعبد الله بن دُرَّة، وبشر بن المحتفر(1).
وفي مسند أحمد، عن النٌّعمان بن مُقرن قال: قدمنا على رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- أربعمائة رجل من مُزَينة, فلمَّا أردنا أن ننصرفَ, قال: (يا عمرُ, زَوِّدِ القومَ), فقال عمرُ: \"ما عندي إلا شيءٌ من تمرٍ,, ما أظنٌّهُ يقع من القومِ موقعاً\", فقالَ له الرَّسُولُ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: (انطلق فزوِّدهم), فانطلق بهم عُمَرُ, فأدخلهم منزلَهُ, ثم أصعدهم إلى علية, فلما دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق, فأخذ القومُ منه حاجتَهُم, قال النعمان: وكنتُ في آخرِ مَن خَرَجَ, فالتفت فإذا فيها من التمرِ مثلُ الذي كان(2).
قدوم وفدِ دوسٍ, على رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-
قال ابنُ إسحاقَ: كانَ الطٌّفَيل بن عمرو الدَّوسيٌّ يُحدِّثُ أنَّهُ قدم مكةَ, ورَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-بها فمشى إليه رجالٌ من قريش, وكان الطٌّفَيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً, قالُوا له: \"إنك قدمتَ بلادنا, وإنَّ هذا الرجلَ -وهو الذي بين أظهرِنا- فَرَّقَ جماعتَنا, وشتتَ أمرَنا, وإنما قولُهُ كالسِّحرِ يُفرِّقُ بين المرءِ وابنِهِ, وبين المرءِ وأخيه, وبين المرءِ وزوجِهِ, وإنما نخشى عليكَ وعلى قومِك ما قد حَلَّ علينا فلا تكلمه, ولا تسمع منه\", قال: فوالله ما زالُوا بي حَتَّى أجمعتُ أن لا أسمعَ منه شيئاً, ولا أُكلمه حَتَّى حشوتُ في أذني حين غدوتُ إلى المسجدِ كُرُسفاً(3) فَرَقاً من أن يبلغني شيءٌ مِن قولِهِ.
قال: فغدوتُ إلى المسجدِ فإذا رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- قائمٌ يُصلِّي عند الكعبةِ, فقمتُ قريباً منه, فأبى اللهُ إلا أن يُسمعني بعضَ قولِهِ, فسمعتُ كَلَاماً حَسَناً, فقلتُ في نفسي: واثكل أُمِّياه, واللهِ إني لرجلٌ لَبيبٌ شاعِرٌ, ما يخفى عليَّ الحسنُ من القبيحِ, فما يمنعني أن أسمعَ من هذا الرَّجلِ ما يقولُ؟ فإن كانَ ما يقولُ حَسَناً قبلتُ, وإن كان قبيحاً تركتُ.
قال: فمكثتُ حَتَّى انصرفَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-إلى بيتِهِ, فتبعتُهُ حَتَّى إذا دَخَلَ بيتَهُ دخلتُ عليه, فقلتُ: يا محمدُ, إنَّ قومَكَ قد قالُوا لي: كذا وكذا فَوالله ما برحوا يُخوفوني أمرك حَتَّى سددت أذني بِكُرسُفٍ, لئلا أسمع قولَك, ثم أبى اللهُ إلا أن يُسمعنيه, فسمعتُ قولاً حَسَناً, فاعرض عليَّ أمرَك, فعرض عليَّ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-الإسلامَ, وتلا عليَّ القرآنَ, فلا والله ما سمعتُ قولاً قطٌّ أحسنَ منه, ولا أمراً أعدلَ منه, فأسلمتُ وشهدتُ شهادةَ الحقِّ, وقلتُ: يا نبيَّ اللهِ, إني امرؤٌ مُطاعٌ في قومي, وإني راجعٌ إليهم فداعيهم إلى الإسلامِ, فادعُ الله لي أن يجعلَ لي آيةً تكون عوناً لي عليهم فيما أدعوهم إليه, فقالَ: (اللهم اجعل له آيةً) قال: فخرجتُ إلى قومي حَتَّى إذا كنتُ بثنية تُطلعني على الحاضرِ, وقع نورٌ بين عيني مثل المصباح, قلت: \"اللهم في غيرِ وجهي إني أخشى أن يظنٌّوا أنها مُثلةٌ وقعت في وجهي لِفراقي دينهم, قال: فتحوَّلَ فوقع في رأسِ سوطي كالقنديل المعلَّق, وأنا أنهبطُ إليهم من الثَّنِيَّة حَتَّى جئتُهم, وأصبحتُ فيهم, فلمَّا نزلتُ أتاني أبي, وكان شيخاً كبيراً, فقلتُ: إليكَ عنِّي يا أبتِ, فلستَ منِّي ولستُ منك, قال: لم يا بُني؟ قلتُ: قد أسلمتُ وتابعتُ دينَ محمدٍ,. قال: يا بُني فديني دينُك. قال: فقلتُ: اذهب فاغتسل, وطَهِّر ثيابَكَ, ثم تعالَ حَتَّى أُعلِّمُك ما علمتُ.
قال: فذهب فاغتسل وطهر ثيابه, ثم جاء فعرضتُ عليه الإسلامَ فأسلم, ثم أتتني صاحبتي فقلتُ لها: إليك عني فلستُ منك ولست منِّي. قالت: لمَ بأبي أنتَ وأمي؟ قلت: فَرَّقَ الإسلامُ بيني وبينكº أسلمتُ وتابعتُ دينَ محمَّدٍ,. قالت: فديني دينُك. قال: قلتُ: فاذهبي فاغتسلي ففعلت, ثم جاءت فعرضتُ عليها الإسلامَ فأسلمت, ثم دعوتُ دَوساً إلى الإسلامِ فأبطئوا عليَّ(4), فجئتُ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-, فقلتُ: يا رَسُول اللهِ, إنه قد غلبني على دَوسٍ, الزِّنا, فادعُ الله عليهم, فقال: (اللهمَّ اهدِِ دَوساً(5)), ثم قال: (ارجع إلى قومِك فادعهم إلى اللهِ, وارفُق بهم), فرجعتُ إليهم, فلم أزل بأرضِ دوسٍ, أدعوهم إلى اللهِ, ثم قدمتُ على رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-, ورَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-بخيبرَ, فنزلتُ المدينةَ بسبعين أو ثمانين بيتاً من دَوسٍ,, ثم لحقنا برَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-بخيبرَ فأسهم لنا مع المسلمين.
قال ابن إسحاق: فلما قُبِضَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-وارتدتِ العربُ, خرج الطٌّفَيل مع المسلمين حَتَّى فرغوا من طُليحة, ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة, ومعه ابنه عمرو بن الطٌّفَيل, فقال لأصحابِهِ: إني قد رأيتُ رُؤيا فاعبرُوها لي: رأيتُ أنَّ رأسي قد حُلِقَ, وأنه قد خرجَ من فمي طائرٌ, وأنَّ امرأةً لقيتني فأدخلتني في فرجِها, ورأيتُ أنَّ ابني يطلبني طلباً حثيثاً, ثم رأيتُهُ حُبِسَ عنِّي. قالوا: خيراً رأيتَ.
قال: أما والله, إني قد أوَّلتُها. قالوا: وما أولتها؟ قال: أَمَّا حلقُ رأسي فوضعُهُ, وأما الطائرُ الذي خرج من فمي فروحي, وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر, فأغيب فيها, وأما طلب ابني إياي وحبسه عني, فإني أراه سيجهدº لأن يصيبه من الشهادة ما أصابني, فقتل الطٌّفَيل شهيداً باليمامة, وجُرح ابنُهُ عمرو جُرحاً شديداً, ثم قُتِلَ عام اليرموك شهيداً في زمنِ عمرَ-رَضيَ اللهُ عَنهُ- (6).
الفوائد والفقه والأحكام من هذه القصة :
1- فيها: أنَّ عادة المسلمين كانت غسل الإسلام قبل دخولهم فيه, وقد صَحَّ أمرُ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-به. وأصحٌّ الأقوالِ وجوبُهُ على مَن أجنبَ في حالِ كفرِهِ ومَن لم يُجنب.
2- وفيها: أنه لا ينبغي للعاقلِ أن يُقلِّدَ النَّاسَ في المدحِ والذَّمِّ, ولاسيما تقليد مَن يمدح بهوى, ويذم بهوى, فكم حالَ هذا التَّقليدُ بين القلوبِ وبين الهُدى, ولم ينجُ منه إلا مَن سبقت له مِنَ اللهِ الحُسنى.
3- ومنها: أنَّ المدد إذا لحق بالجيش قبل انقضاء الحرب, أُسهم لهم.
4- ومنها: وقوع كرامات الأولياء, وأنها إنما تكون لحاجةٍ, في الدين أو لمنفعةٍ, للإسلام والمسلمين, فهذه هي الأحوالُ الرَّحمانيةُ سببها متابعةُ الرَّسُولِ, ونتيجتُها إظهارُ الحقِّ وكسرُ الباطلِ, والأحوالُ الشَّيطانيةُ ضدها سبباً ونتيجة.
5- ومنها: التأني والصبر في الدعوة إلى الله, وأن لا يعجل بالعقوبة والدعاء على العُصاة, وأمَّا تعبيره حلق رأسه بوضعِهِ فهذاº لأنَّ حلق الرأس وضع شعره على الأرض, وهو لا يدل بمجرده على وضع رأسه فإنه دال على خلاص من هم, أو مرض, أو شدة لمن يليق به ذلك, وعلى فقر, ونكد, وزوال رياسة, وجاه لمن لا يليق به ذلك, ولكن في منام الطٌّفَيل قرائن اقتضت أنه وضع رأسهº منها أنه كان في الجهاد, ومقاتلة العدو ذي الشوكة والبأس.
6- ومنها : أنه دخل في بطن المرأة التي رآها وهي الأرض التي هي بمنزلة أمه, ورأى أنه قد دخل في الموضع الذي خرج منه, وهذا هو إعادته إلى الأرض, كما قال-تعالى-: {مِنهَا خَلَقنَاكُم وَفِيهَا نُعِيدُكُم وَمِنهَا نُخرِجُكُم تَارَةً أُخرَى}(55) سورة طـه. فأوَّلَ المرأةَ بالأرضِº إذ كلاهما محلٌّ الوطءِ, وأوَّلَ دخولَهُ في فرجِها بعودِهِ إليها كما خُلِق منها, وأوَّلَ الطَّائرَ الذي خرج مِن فيه بروحِهِº فإنها كالطائر المحبوس في البدن, فإذا خرجت منه كانت كالطائر الذي فارق حبسَهُ فذهب حيث شاء, ولهذا أخبر النَّبيٌّ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: (أنَّ نَسمَةَ المُؤمِنِ طَائِرٌ يَعلَقُ في شَجَرِ الجَنَّة(7)), وهذا هو الطائر الذي رُئي داخلاً في قبرِ ابنِ عَبَّاسٍ,, لمَّا دُفن وسُمِعَ قارئ يقرأ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ ارجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرضِيَّةً}27-28) سورة الفجر. وعلى حسب بياض هذا الطَّائر وسواده وحسنه وقبحه تكون الروح, ولهذا كانت أرواحُ آل فرعون في صورةِ طيورٍ, سُودٍ, تردُ النارَ بُكرةً وعشيةً(8), {النَّارُ يُعرَضُونَ عَلَيهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدخِلُوا آلَ فِرعَونَ أَشَدَّ العَذَابِ} (46) سورة غافر، وأوَّلَ طلبَ ابنِهِ له باجتهاده في أن يلحقَ به في الشَّهادةِ, وحبسه عنه هو مدة حياتِهِ بين وقعة اليمامة واليرموك. والله أعلم.(9)
1 - راجع: طبقات ابن سعد 1/ 219.
2 - مسند أحمد: (5/ 445).
3 - الكرسف: هو القطن.
4 - انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 345)، وصفوة الصفوة، (1/ 601)، والاستيعاب،(2/ 760). ودلائل النبوة للأصبهاني، (1/ 213).
5 - صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة-رَضيَ اللهُ عَنهُم-، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيء، رقم الحديث(2524)(4/1965).
6 - راجع: زاد المعاد في هدي خير العباد، 3/ 624.626.
7 - أخرجه أحمد (3/455)، والنسائي 4/108، ومالك في الموطأ 1/240 عن كعب بن مالك ، وقال الأرنؤوط في حاشية زاد المعاد: وإسناده صحيح، ومعنى يعلق: يأكل ويرعى.
8 - ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، (3/233) بلفظ\" روى الطبري من طريق الثوري عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل قال: أرواح آل فرعون في طيور سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها.
9 - انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد. 3/627-628.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد