بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كانَ فتحُ مكة بدايةَ فتحٍ, عظيمٍ, للمسلمين، وقد كانَ الناسُ تَبَعاً لقُريشٍ, في جاهليتهم، كمَّا أنهم تبعٌ لقريشٍ, في إسلامهم، وكانت مكَّةُ عاصمةَ الشِّركِ والوثنيةِ، وكانت القبائلُ تنتظرُ ما يفعلُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومِه وعشيرتِه، فإن نصره الله عليهم، دخلُوا في دينه، وإنِ انتصرت قُريشٌ، يكونون بذلك قد كفوهم أمرَهُ، فقد روى البخاري عن عمرو بن سلمة، قال: كنَّا بما ممرٌّ الناسِ، وكان يمرٌّ بنا الركبانُ فنسألهم: ما للناسِ، ما للناسِ؟ ما هذا الرجلُ ؟ (1)، فيقولون: يزعمُ أنَّ الله أرسله، أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنتُ أحفظ ذلك، فكأنَّما يقرٌّ في صدري، وكانتِ العَرَبُ تلوَّمُ(2) بإسلامِهم الفتحَ، فيقولون: اتركُوه وقومَهُ، فإنَّه إن ظهرَ عليهم، فهو نَبِيُّ صادقٌ، فلمَّا كانت وقعةُ أهلِ الفتحِ، بادرَ كلٌّ قومٍ, بإسلامِهم... الحديثَ(3).
وإذا تأمَّلتَ أحداثَ هذا الفتحِ الأكبرِ، تستطيعُ أن تدركَ تماماً قيمةَ الجهاد والاستشهاد والمحنِ التي وقعت من قبله، إنَّ شيئاً من هذا الجهاد والتعب والمحن لم يذهب بَدَداً، ولم تُرق نقطةُ دمٍ, لمسلمٍ, هَدَراً، ولم يتحمَّل المسلمون كلَّ ما لاقوه مما قد علمتَ في هجرتهم و غزواتهم وأسفارهم، لأنَّ رياح المصادفة فاجأتهم بها، ولكن كل ذلك كان وِفق قانونٍ, سماويٍّ,، وبحسب سنةِ الله في خلقِهِ، فكلٌّ التضحياتِ المتقدمةِ كانت تُؤدِّي أقساطاً من ثمن الفتحِ والنَّصرِ، وتلك هي سُنَّةُ الله في عبادِهِ.. لا نصرَ بدونِ إسلامٍ, صحيحٍ,، ولا إسلامَ بدونِ عُبوديةٍ, له، ولا عُبوديةَ بدونِ بَذلٍ, وتضحيةٍ, وضَرَاعةٍ, على بابِهِِ وجهادٍ, في سبيلِهِ، ولذلك كان الفتحُ مَلِيئاً بالدٌّروسِ والعِبَرِ والفَوَائِدِ، وهذه لمحاتٌ وومضاتٌ من فقهِ الفَتحِ وعِبَرِهِ وفَوَائِدِهِ:
1.بيان عاقبة نكث العهود، وأنَّه وخيمٌ للغاية، إذ قريشٌ نكثت عهدَها، فحلَّت بها الهزيمةُ، وخسرت كيانها الذي كانت تُدافع عنه وتحميه.
2.تجلِّي النبوة المحمدية، والوحي الرباني في الإخبارِ بالمرأة حاملةِ خطابِ حاطب بن أبي بَلتعة، إذ أخبر عنها وعن المكان الذي انتهت إليه في سيرها، وهو \" رَوضة خاخ \".
3.فضيلةُ إقالةِ عثرةِ الكرامِ، وفضل أهل بدر، وقد تجلَّى ذلك واضحاً في العفوِ عن حاطب بعد عتابه، واعتذاره عن ذلك، التوبة منه.
4. مشروعيةُ السفرِ في رمضان، وجوازُ الفطرِ والصيام فيه على حدٍّ, سواء.
5.مشروعية التعمية على العدو حتى يُباغت، قبل أن يكون قد جمع قواه، فتُسرع إليه الهزيمة وتقل الضحايا والأمواتُ من الجانبين حَقناً للدِّماء البشرية.
6. بيان الكمال المحمدي في قيادة الجيوش، وتحقيق الانتصارات الباهرة.
7. مشروعية إرهاب العدو بإظهار القوة له، و في القرآن الكريم قال تعالى:{وَأَعِدٌّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ, وَمِن رِّبَاطِ الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم لاَ تَعلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعلَمُهُم وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيءٍ, فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيكُم وَأَنتُم لاَ تُظلَمُونَ} سورة الأنفال(60).
8. مشروعية إنزال الناس منازلهم، تجلَّى هذا في إعطاء الرسول-صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان كلماتٍ, يقولهن، فيكون ذلك فخراً له واعتزازاً، وهو: \" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن \" ينادي بها بأعلى صوته.
9. بيان تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- لربه شكراً له على آلائه وإنعامه عليه، إذ دخل مكة وهو متطامنٌ، حتى إنَّ لحيته لتمس رحلَ ناقته تواضعاً لله وخشوعاً. فلم يدخل - وهو الظافر المنتصر- دخولَ الظلمة الجبارين السفاكي الدماء البطَّاشين بالأبرياء والضعفاء.
10. بيان العفو المحمدي الكبير، إذ عفا عن قُريشٍ, العدو الألد، ولم يقتل منهم سوى أربعة رجال وامرأتين، إذ رفضوا الإسلام.
11. بيان الكمال المحمدي في عدله ووفائه، تجلَّى ذلك في رد مفتاح الكعبة لعثمان بن أبي طلحة، ولم يُعطه مَن طلبه منه، وهو \" علي بن أبي طالب\" - رضي الله عنه- وهو صهره الكريم وابن عمه.
12. مشروعية كسر الأصنام، والصور، والتماثيل وإبعادها من المساجد بيوت الله - تعالى-.
13. تقرير مبدأ الجوار في الإسلامº لقوله -صلى الله عليه وسلم-:\" أجرنا من أجرتِ، وأمَّنا من أمَّنتِ، يا أم هاني\".
14. وجوب البيعة على الإسلام، وهي الطاعة لله ورسوله وأولى الأمر في المعروف وما يستطاع.
15. آية النبوة تتجلَّى في علمه -صلى الله عليه وسلم- بما أضمره الرجل من اغتيال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يطوف.
16. احترام الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأسرة الصديق وتكريمه لها، والإكبار من شأنها، إذ هي الأسرة الوحيدة التي أسلم أفرادها كافة آباء وأمهات وبنين وبنات.
17. مشروعية صبغ الشعر بغير السواد، سواء كان شعر لحية أو رأس. راجع : \" هذا الحبيبُ محمد -صلى الله عليه وسلم- يا محب\" للشيخ أبي بكر الجزائري- حفظه الله- (ص400- 401 ).
18. ومنها أنَّ الإمام وغيره إذا سُئل ما لا يجوز بذله، أو لا يجب، فسكت عن بذله، لم يكن سكوتُه بذلاً له، فإن أبا سفيان سأل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- تجديدَ العهد، فسكت رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يُجبه بشيء، ولم يكن بهذا السكوتِ معاهداً له.
19. جواز تبييت الكفار، ومُغافضتهم(4) في ديارهم إذا كانت قد بلغتهم الدعوة، وقد كانت سرايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُبيِّتُون الكفَّار، ويُغيرون عليهم بإذنه بعد أن بلغتهم دعوتُه(5).
20. جواز تجريد المرأة كلِّها وتكشفها للحاجة والمصلحة العامة، فإن علياً والمقداد قالا للظعينة: لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك، وإذا جاز تجريدها لحاجتها إلى ذلك حيث تدعو إليها، فتجريدها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى.
21. أنَّ الرجلَ إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأوِّلاً وغضباً لله ورسوله ودينه، لا لهواه وحقِّه، فإنَّه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يُثاب على نيته وقصده، وهذا بخلافِ أهلِ الأهواءِ والبدعِ، فإنهم يُكفِّرون ويُبدِّعون لمخالفةِ أهوائِهم ونحلِهم، وهم أَولى بذلك ممن كفَّروه وبدَّعوه.
22. جوازُ، بل استحبابُ كثرةِ المسلمينَ وقوتهم وشوكتهم وهيئتهم لرسلِ العدو، إذا جاؤوا إلى الإمام،كما يفعل ملوكُ الإسلام، كما أمرَ النَّبيٌّ-صلى الله عليه وسلم- بإيقادِ النِّيران ليلة الدخول إلى مكة، وأمر العبَّاس أن يحبسَ أبا سفيان عند خطم الجبل، وهو ما تضايق منه حتى عُرضت عليه عساكر الإسلام، وعصابة التوحيد وجند الله، وعُرض عليه حرسُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وهم في السِّلاح منهم إلا الحِدَق، ثم أرسله فأخبر قُريشاً بما رأى.
23. جوازُ دخولِ مكَّة للقتال المباحِ بغيرِ إحرامٍ,، كما دخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-والمسلمون، وهذا لا خلافَ فيه، ولا خلافَ أنَّه لا يدخلُها مَن أراد الحجَّ أو العمرةَ إلا بإحرامٍ,، واختُلف فيما سِوَى ذلك، إذا لم يكن الدخولُ لحاجةٍ, متكررةٍ,، كالحشَّاشِ والحطَّابِ، على ثلاثةِ أقوالٍ,: أحدها: لا يجوزُ دخولهُا إلا بإحرامٍ,، وهذا مذهبُ ابن عبَّاسٍ, -رضي الله عنه-، وأحمد في ظاهر مذهبِهِ، والشافعي في أحدِ قوليه. الثاني: أنه كالحشَّاش والحطَّاب، فيدخلها بغير إحرام، وهذا القول الآخر للشافعي، ورواية عن أحمد. الثالث: أنه إن كان داخل المواقيت، جاز دخوله بغير إحرام، وإن كان خارج المواقيت، لم يدخل إلا بإحرام، وهذا مذهب أبي حنيفة. وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلوم في المجاهد، ومريد النُسك، وأما مَن عداهما فلا واجب إلا ما أو جبه الله ورسوله، أو أجمعت عليه الأمةُ.
24. البيان الصريح بأنَّ مكة فُتحت عَنوَةً، كما ذهب إليه جمهورُ أهل العلم، ولا يُعرف في ذلك خلافٌ إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه، وسياق القصة أوضح شاهد لمن تأمله لقول الجمهور، ولما استهجن أبو حامد الغزالي القول بأنَّها فُتحت صُلحاً، حكى قولَ الشافعي أنها فُتِحت عَنوَةً في \" وسيطه \"، وقال:\" هذا مذهبُهُ \". راجع:\" زاد المعاد\" للإمام ابن القيم - رحمه الله- ( 3/ 419- 465 ).
25. جواز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة، فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ارتدَّ ولحق بمكة، فلمَّا كان يوم الفتح أتى به عثمانُ بن عفان رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ليُبايعه، فأمسك عنه طويلاً، ثم بايعه. وقال: إنما أمسكتُ عنه طويلاً، ليقومَ إليه بعضُكم فيضرب عنقه، فقال له رجلٌ: هلا أومأتَ إليَّ يا رسولَ الله، فقال:\" ما ينبغي لنبيٍّ, أن تكون له خائنة الأعين \"(6). راجع: \" وقفات تربوية مع السيرة النبوية\" للشيخ أحمد فريد(ص341- 342).
26. إباحة متعة النساء، ثم حرمها قبل خروجه من مكة.
1 - أي يسألون عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وعن حال العرب معه.فتح الباري (7/ 617).
2 - بفتح أوله واللام, وتشديد الواو, أي تنتظر, وإحدى التاءين محذوفة.فتح الباري (7/ 617).
3 - رواه البخاري، فتح الباري، كتاب المغازي (7/ 616-618). رقم(4302).
4 - أي: أخذهم علي غرة.
5 - راجع لمزيد من التفاصيل:\" شرح مسلم للنووي \"(12/36) المجلد الرابع.
6 - الحديث رواه أبو داود رقم ( 2666) كتاب الجهاد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 2 )
فتح مكة
09:27:49 2021-11-24
الجزائر سوق اهراس
-mohamed amine
18:03:46 2021-11-17