كانت في شهر رمضان سنة ثمان
قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن الله أفواجـاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا(1).
سبب الغزوة:
قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد -صلى الله عليه وسلم- وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر - اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له: [الوَتِير ] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟. ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيل بن وَرقَاء الخزاعي، وإلى دار مولي لهم يقال له: رافع.
وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يــارب إنـي ناشـد محمـداً |
|
حلفنـا وحلف أبيه الأتلدا(2) |
قد كنتم ولـدا وكنا والــدا(3) |
|
ثمة أسلمنــا ولـم ننـزع يـدا |
فانـصر هداك الله نصراً أيـدا |
|
وادع عبـاد الله يأتــوا مــددا |
فيهم رسـول الله قــد تجـردا |
|
أبيض مثل البدر يسموا صعــدا |
إن سيـم خسفاً وجهـه تربـدا |
|
في فيلق كالبحر يجري مزبــدا |
إن قـريشا أخلفوك الموعــدا |
|
ونقـضـوا ميثـاقـك المؤكـدا |
وجعـلوا لي في كداء رصـدا |
|
وزعمـوا أن لست أدعو أحـدا |
وهــــم أذل وأقـل عـددا |
|
هـم بيتـونا بالـوتير هجــدا |
وقتلونا ركعا وسجدا(4) |
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: \" نصرت يا عمرو بن سالم \"، ثم عرضت له سحابة من السماء، فقال:\" إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب \"(5).
ثم خرج بُدَيل بن وَرقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح:
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق، لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح.
وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم. قال: \" كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقدَ، ويزيد في المدة \"(6).
وخرج أبو سفيان - حسب ما قررته قريش - فلقي بديل بن ورقاء بعُسفَان - وهو راجع من المدينة إلى مكة - فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟! قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأى فيها النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر.
ثم خرج حتى أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فو الله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحَق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق.
ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد عليَّ شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا ؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء:
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر عائشة- قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام - أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز:
يا رب إني ناشد محمداً...
الأبيات..
فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان، وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال: \" اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها \"(7). وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية قوامها ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـº ليظن الظان أنه -صلى الله عليه وسلم- يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته.
وكتب حاطب بن أبي بَلتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرثَد الغَنَوِي فقال: \"انطلقوا حتى تأتوا رَوضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش\"، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً. فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش. يخبرهم بمسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاطباً، فقال:\" ما هذا يا حاطب؟! \" فقال: لا تَعجَل على يا رسول الله. والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ مُلصَقـًا في قريش º لست من أنفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :\" إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم \"، فذَرَفَت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم(8).
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
1 - زاد المعاد 2/ 160.
2 - الأتلد القديم يشير إلى الحلف الذي كان بين بني خزاعة وبين بني هاشم منذ عهد عبد المطلب.
3 - يشير إلى أم عبد مناف وهي: حبى زوجة قصي كانت من خزاعة.
4 - يقول: قتلونا وقد أسلمنا.
5 - سنن البيهقي الكبرى (9/233)، وفتح الباري (7/520).
6 - الطبقات الكبرى (2/134)، وشرح معاني الآثار (3/316).
7 - ابن هشام (5/52).
8 - البخاري، الفتح، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، رقم (3007).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد