ومن الشبهات التي أثارها النصارى ليشكِّكوا في نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- القول بأنه لم يأت بمعجزات، وفي إثبات ذلك تعلقوا ببعض الآيات القرآنية التي تأولوها على نحو باطل.
يقول وهيب خليل في كتابه \"استحالة تحريف الكتاب المقدس\": \"إن موسى -عليه السلام- صنع معجزات، أما رسول الإسلام فلم يصنع معجزات، وهذا بشهادة القرآن\"، فقد تعلقوا بقوله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} سُورة الإسراء: 59
وقوله: {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه} سُورة الأنعام: 37. وأمثال ذلك من الآيات التي طلب فيها الكفار آية معينة فلم يجبهم إليها النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه، عبد العظيم المطعني، ص 115.. وهذه الآيات التي تعسف النصارى في الاستدلال بها موضوعها الآيات التي طلبها المشركون من النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- تعجيزاً فقالوا للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يقول الله سبحانه وتعالى حكاية عنهم: {وقالوا لن نؤمن لك حَتَّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً * أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حَتَّى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً} سُورة الإسراء:90-93.
يقول الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآيات: نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة، وشيبة ابن ربيعة، وأبي سفيان، والنضر بن الحارث، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، وأبي البختري، والوليد بن المغيرة، وغيرهم، وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة اجتمعوا فيما ذكر ابن إسحاق وغيره بعد غروب الشمس، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فكلموه وخاصموه حَتَّى تعذروا فيه فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فأتهم. فجاءهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو، وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حَتَّى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك، وإنما والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حَتَّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك -وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً- فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب رآه لك حَتَّى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: مابي ما تقولون ماجئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا من ماجئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حَتَّى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ، قالوا يا محمد: فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من النَّاس أحد أضيق بلداً ولا أقل ماءً ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير..... إلــخ القصة انظر تفسير القرطبي (10/328).
فعند طلب أمثال هذه المعجزات مع الإعراض عن المعجزة الحقيقية لنبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- والمعجزات الأخرى، عند ذلك لم يستجب الله -عز و جل- لطلب المشركين، إذ أن طلبهم ليس لعدم قيام الحجة الكافية بل هو نوع من التعنت والتعجيز، وقد كانوا كلما رأوا معجزة يقولون: سحر مستمر، أو ساحر مبين…فحَتَّى لو نزلت هذه الآيات فسوف يعيدون ذلك القول. وقد قال تعالى عن معجزة القرآن: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة و ذكرى لقوم يؤمنون} سُورة العنكبوت:51 .
وبعض هذه الآيات التي طلبوها مستحيل شرعاً كقولهم: {لولا يكلمنا الله} وقد أجابهم الله على طلبهم لهذه الآيات: {قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون}سُورة الأنعام: 109. {قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون} سُورة الأنعام: 37. وعدم إجابة المشركين على تعنتهم لا تعني أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- لم يأت بآيات، فإن هذا يرده التأمل في معجزة القرآن وما نقل من معجزاته -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- المبثوثة في كتب الحديث ودلائل النبوة 1. ثم إن اشتراط النصارى المعجزة للدلالة على النبوة ليس بصحيح وفق دينهم وكتابهم، فها هو يوحنا المعمدان يقول عنه متى: \"يوحنا عند الجميع نبي\" (متى 21/26)، وفي موضع آخر \" أفضل من نبي \" (متى 11/9)، و رغم ذلك لم يأت بآية واحدة، يقول يوحنا \" فأتى إليه كثيرون وقالوا إن يوحنا لم يفعل آية واحدة \" (يوحنا 10/41). ثم إن مثل هذه النصوص القرآنية التي يتعلق بها النصارى ورد في حق المسيح في الأناجيل، يقول مرقس: \" فخرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه، فتنهد بروحه، وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية ؟ الحق أقول لكم: لن يعطى هذا الجيل آية. ثم تركهم… \" (مرقس 8/11-13). وكان الشيطان قد جربه قائلاً: \"إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب: إنه يوصي ملائكته بك…قال له يسوع: مكتوب أيضاً لا تجرب إلهك\" (متى 4/6-7)، ولما وضع بين يدي هيرودس \"فرح جداً، لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجى أن يرى آية تصنع منه، وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء\" (لوقا 23/8-9). فما الذي يقوله النصارى في هذه النصوص ؟؟ وهل يرونها مبطلة لما جاء به المسيح من معجزات ؟!(2) فكل ما يقولونه في حق المسيح نقوله في حق نبينا عليه وعلى أخيه عيسى أفضل الصلاة والسلام، نترك الإجابة لأصحاب العقول السليمة النيرة والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين(3).
1 - انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي 4/1306-1309، 1315، الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح، نعمان الألوسي 1/642-662، أدلة اليقين في الرد على مطاعن المبشرين والملحدين، محمد شوقي الجزيري، ص 182-190، مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه، عبد العظيم المطعني، ص 115-117، التثليث في المرآة، كوثر نيازي، ص 48-51.
2 - انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي 4/ 1310-1314، الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح، نعمان الألوسي 1/614-624، أدلة اليقين في الرد على مطاعن المبشرين والملحدين، محمد شوقي الجزيري، ص 191-193.
3 - أهم المصادر والمراجع: تفسير القرطبي (10/328). مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه لعبد العظيم المطعني (115-117). إظهار الحق لرحمة الله الهندي (4/1306-1309،1315).الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح، لنعمان الألوسي (1/642-662). أدلة اليقين في الرد على مطاعن المبشرين والملحدين، محمد شوقي الجزيري،(182-190). التثليث في المرآة، كوثر نيازي، ص 48-51. (متى 21/26),(11/9). (يوحنا 10/41). (مرقس 8/11-13). (لوقا 23/8-9). موقع ابن مريم على شبكة الإنترنت (http://www.ebnmaryam.com/) بتصرف.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد