يمكن تصنيف الأخطاء التي وقعت فيها المدرسة التغريبية العلمانية في كتابة السيرة على هذا النحو:
أولاً: متابعة مناهج ودراسات كتاب الاستشراق:
فقد عمد الكتّاب الكبار الثلاثة إلى البدء في كتابة السيرة من منطلقٍ, غربيٍّ, استشراقيٍّ,.
فالدكتور \"هيكل\" معجب بكتاب \"إميل درمنجم\" وما يحويه من آراء تقرب مسافة الخلاف بين الإسلام والنصرانية، ومن ذلك نراه يتابعه في مجموعة من الآراء تختلف مع مفهوم الإسلام الأصيل, وإن كان \"هيكل\" قد رد على آراء المستشرقين في مسائل إلا أنه قد خضع لمناهج المستشرقين, ولمفهومهم في الفلسفة المادية، بالنسبة للمعجزات، وبالنسبة للإسراء والمعراج, وبالرغم من نوايا الدكتور \"هيكل\" الطيبة في تقديم صورة بارعة للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فإن موقفه من إنكار المعجزات, والغيبيات, وتجاهلها حَتَّى وإن وردت في القرآن والسنة-على حد قوله- كان مأخذاً كبيراً في تعليل قيمة العمل الذي قام به.
فقد أنكر عدداً من المعجزات الثابتة بصريح القرآن ومتواتر السنة، كنزول الملائكة في بدر، وطير الأبابيل، وشق الصدر، والإسراء، وأنَّ (اقرأ) كانت مناماً وأولَ ذلك كله إرضاءً للمنهج العلمي الغربيّ الذي أعلنه وأعلن التزامه به, فاعتبر الإسراء سياحة الروح في عالم الرؤى، ووصف الملائكة الذين أمدّ الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي، ووصف طير الأبابيل بداء الجدري، واعتبر شق الصدر شيئاً معنوياً، واعتبر لقاء جبريل بالنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حراء مناماً، وبذلك عمد إلى تفريغ تاريخ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- من الحقائق الغيبية, والمعجزات, وقصر موقفه على أن للنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- معجزة واحدة هي القرآن الكريم, مع أنَّ الخوارق, والمعجزات, لا يمكن أن تتنافى في جوهرها مع حقائق العلم وموازينه, وقد سميت خوارق لخرقها لما هو مألوف أمام الناس، وما كان للمألوف أو العادة أن يكون مقياساً علمياً لما هو ممكن وغير ممكن، ولما كان الله تبارك وتعالى هو صانع النواميس, فإنه هو وحده القادر على خرقها متى شاء.
يقول الشيخ محمد زهران:
ولقد علل الدكتور \"هيكل\" إنكاره جميع المعجزات المحمدية (غير القرآن) بأنها مخالفة للسنة الإلهية، وزعم أنَّ روايات معجزاته -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- موضوعة قصد واضعها إما أن يجعل لنبينا مثل ما لموسى وعيسى عليهما السلام، وإما أن يشك الناس في صحة آية: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبدِيلًا} (62) سورة الأحزاب.
ولا شك أن دعوى استحالة خرق العادات المعبر عنه في كتابه بمخالفة السنن يستلزم التسليم بها إنكار الإسلام من أصله, وتكذيب الأديان كلها, ومنها إنكار الأحاديث التي أطبق على قبوله أئمة الحديث وغيرهم مع تواترها والإجماع على مضامينها.
موقف النَّبيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- من وفاة ابنه إبراهيم:
كذلك فقد كانت الصورة التي رسمها الدكتور \"هيكل\" عن حُزنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - لوفاة ابنه إبراهيم مما لا يتفق مع جلال النبوة وعظمة الرسالة, إذ صوّره - صلوات الله وسلامه عليه - واضعاً ولده في حجره وعيناه تذرفان الدموع مدراراً, ولسانه ينطق بألفاظ يشيع منها الحزن والأسى وتقطر غماً وتأثراً مما يشبه أن يكون ضعفاً عن احتمال صدمة الحادث...
والحقيقة أنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أسمى قدراً من أن يصدر منه ما صوّره الدكتور \"هيكل\" هياماً في الخيال, والشعر, والقصص. وإنما أظهر رسول الله ما أظهر من حزن سامٍ,, وذرفت عيناه دموعاً مطهرة لا يذرفها إلا لله. ولا يمكن أن يكون الرَّسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قد بدرت منه الألفاظ التي نسبها إليه الدكتور \"هيكل\" منساقاً مع شعوره حين حزن هو على فقد ولده، ولأجل هذا غير اسم كتاب رحلته إلى أوروبا إلى عنوان (ولدي). إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم علم اليقين وحق اليقين أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأن ولده إبراهيم لن يعيش طويلاً حيث يقول الله تبارك - وتعالى-: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ, مِّن رِّجَالِكُم وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبيّينَ}(40) سورة الأحزاب. ولقد مات له ولدان من قبل احتسبهما في رضى وإيمان.
تقبل وجهات نظر درمنجم في مسائل أساسية:
وقد أُخِذ على الدكتور \"هيكل\" تقبل وجهات نظر \"إميل درمنجم\" في تصوره أن النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قد تأثر بأهل الكتاب في الجزيرة العربية, أو في ذهابه إلى الشام, أو في إرسال بعض أصحابه إلى الحبشة المسيحية، فقد جرى \"هيكل\" وراء عبارات \"درمنجم\" دون أن يتبين مكره وخبثه حين حاول أن يصور دعوة النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشةºلأنها مسيحية. ويتساءلُ الدكتور \"حُسَين الهراوي\" الذي ناقش هيكلاً في هذه النقطة: هل حقيقة كانت الهجرة إلى الحبشةº لأنها مسيحية. ويقول إن \"درمنجم\" - شأن المستشرقين- بتر هذه القصة بصفة مشوهة للحقيقة. فلم يكن الدافع للنجاشيِّ ورعه وتقواه, ولم يكن سبب عطفه ورحمته ذلك الدافع الديني, بل الدافع الحقيقي أن هذا النجاشي كان عادلاً, وهذه هي العلة التي ذكرها النَّبيٌّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- .
ومن مراوغات \"درمنجم\" تفسيره للآية الكريمة: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ, مِّمَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ فَاسأَلِ الَّذِينَ يَقرَؤُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ} (94) سورة يونس.
يريد \"درمنجم\" أن يقول: إن القرآن طلب إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سؤال أهل الكتاب وأنَّ الله - تعالى- رضي للناس الإسلام ديناً مع بقاء الأديان التي سبقت، وحدةً مندمجةً. فيما أسماه الكَمَالَ الرٌّوحيِّ. ولا ريب أن هذه مراوغة خطيرة من الاستشراق يحاول بها أن يفسر الآيات القرآنية تفسيراً يخدم بها أهدافه، والحقيقة أن الإسلام جاء ليظهره الله على الدين كله, وأن الأديان كلها التي سبقت كانت موصلة إليه لولا أنّ قادتها حرّفوها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد