استدل النصارى ومن حالفهم في أن النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- كان يشك في وحيه بقوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ, مِّمَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ فَاسأَلِ الَّذِينَ يَقرَؤُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ لَقَد جَاءكَ الحَقٌّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمتَرِينَ } سُورة يونس، الآية: 94.
الرد على الشبهة:
نقول وبالله التوفيق: إنَّ أسلوب الخطاب في الآية القرآنية لا يستلزم وقوع الشك في قلب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ففي لـغـة الـعـرب حرفان للشرطية: (إن) الشرطية و(إذا) الشرطية, لكن ما الفرق بينهما ؟؟ نقول : بأن (إن) الشرطية تحتمل وقوع الحدث وقد لا تحتمله، أما (إذا) الشرطية فهي التي احتملت وقوع الحدث، فأسلوب الخطاب في الآية الكريمة هو (إن) والذي يحتمل وقوع الشك في قلب الرَّسُول -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وقد لا يحتمله. قال قتادة بن دعامة (رضي الله عنه): بلغنا أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قال: (لا أشك ولا أسأل) تفسير الإمام الطبري (11/168). وهذا الأسلوب معهود بطلب السؤال حَتَّى من المعدوم، كطريقة للتأكيد على الحزم والجزم،كما في قوله -تعالى-: {واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا لهم من دون الرحمن آلهة يعبدون} ومن المعلوم استحالة سؤاله للمرسلين السابقين فقد ماتوا قبله بقرون.
ومما يزيد هذه الآية وضوحاً وتبياناً ماذكره الإمام القرطبي في تفسيره للآية السابقة التي استدل بها النصارى جهلاً بغير علم -أوبعلم- : فإن كنت في شك أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك أي يا عابد الوثن إن كنت في شك من القرآن فاسأل من أسلم من اليهود يعني عبد الله بن سلام وأمثاله لأن عبدة الأوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم من أجل أنهم أصحاب كتاب فدعاهم الرَّسُول -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- إلى أن يسألوا من يقرون بأنهم أعلم منهم هل يبعث الله برسول من بعد موسى؟. وقال القتبي: هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- بل كان في شك. وقيل: المراد بالخطاب النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- لا غيره والمعنى لو كنت يلحقك الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك. وقيل: الشك ضيق الصدر، أي: إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم، وكيف كان عاقبة أمرهم. والشك في اللغة أصله الضيق يقال شك الثوب أي ضمه بخلال حَتَّى يصير كالوعاء وكذلك السفرة تمد علائقها حَتَّى تنقبض فالشك يقبض الصدر ويضمه حَتَّى يضيق. وقال الحسين بن الفضل: الفاء مع حروف الشرط لا توجب الفعل ولا تثبته والدليل عليه ما روي عن النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أنه قال لما نزلت هذه الآية: (والله لا أشك). ثم استأنف الكلام فقال: {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} أي الشاكين المرتابين {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ} سُورة يونس: 95. والخطاب في هاتين الآيتين للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- والمراد غيره تفسير الإمام القرطبي (8/382).
ويقول الإمام ابن القيم (رحمه الله) في الرد على هذه الشبهة:
الحكمة تختص بأهل الكتاب دون عبدة الأوثان فبقاؤهم من أقوى الحجج على منكري النبوات والمعاد والتوحيد وقد قال تعالى لمنكري ذلك: {وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نٌّوحِي إِلَيهِم فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ} النحل: 43. يعني: سلوا أهل الكتاب هل أرسلنا قبل محمد رجالاً يوحى إليهم أم كان محمد بدعاً من الرسل لم يتقدمه رسول حَتَّى يكون إرساله أمراً منكراً لم يطرق العالم رسول قبله؟ وقال تعالى: {وَاسأَل مَن أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رٌّسُلِنَا أَجَعَلنَا مِن دُونِ الرَّحمَنِ آلِهَةً يُعبَدُونَ} الزخرف، الآية:45 . والمراد بسؤالهم سؤال أممهم عما جاؤوهم به هل فيه أن الله شرع لهم أن يعبد من دونه إله غيره.
قال الفراء: المراد سؤال أهل التوراة والإنجيل فيخبرونه عن كتبهم وأنبيائهم.
وقال ابن قتيبة: التقدير واسأل من أرسلنا إليهم رسلاً من قبلك وهم أهل الكتاب.
وقال ابن الأنباري: التقدير وسل من أرسلنا من قبلك.
وعلى كل تقدير فالمراد تقرير مشركي قريش وغيرهم ممن أنكر النبوات والتوحيد وأن الله أرسل رسولاً أو أنزل كتاباً أو حرم عبادة الأوثان فشهادة أهل الكتاب بهذا حجة عليهم وهي من أعلام صحة رسالته إذ كان قد جاء على ما جاء به إخوانه الذين تقدموه من رسل الله سبحانه ولم يكن بدعاً من الرسل ولا جاء بضد ما جاؤوا به بل أخبر بمثل ما أخبروا به من غير شاهد ولا اقتران في الزمان وهذه من أعظم آيات صدقه.
وقال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ, مِّمَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ فَاسأَلِ الَّذِينَ يَقرَؤُونَ الكِتَابَ مِن قَبلِكَ لَقَد جَاءكَ الحَقٌّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمتَرِينَ} سُورة يونس، الآية: 94.
وقد أشكلت هذه الآية على كثير من النَّاس وأورد اليهود والنصارى على المسلمين فيها إيراداً وقالوا: كان في شك فأمر أن يسألنا وليس فيها بحمد الله إشكال وإنما أتي أشباه الأنعام من سوء قصدهم وقلة فهمهم وإلا فالآية من أعلام نبوته وليس في الآية ما يدل على وقوع الشك ولا السؤال أصلاً فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط بل ولا على إمكانه كما قال تعالى: {لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ} سُورة الأنبياء، الآية:22 وقوله: {قُل لَّو كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبتَغَوا إِلَى ذِي العَرشِ سَبِيلاً} سُورة الإسراء، الآية: 42 وقوله تعالى: { قُل إِن كَانَ لِلرَّحمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} سُورة الزخرف، الآية 81 وقوله تعالى: {وَلَقَد أُوحِيَ إِلَيكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} سُورة الزمر، الآية:85 ونظائره فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشك ولم يسأل. وفي تفسير سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قال : (لا أشك ولا اسأل).تفسير الطبري (11/168) وقد ذكر ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فإن كنت في شك أنك مكتوب عندهم فاسألهم وهذا اختيار ابن جرير. قال يقول تعالى لنبيه فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما أخبرناك وأنزلنا إليك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن أبعثك رسولا ًإلى خلقي لأنهم يجدونك مكتوباً عندهم ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتبهم فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك كعبد الله بن سلام ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك. وكذلك قال ابن زيد قال هو عبد الله بن سلام كان من أهل الكتاب فآمن برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-
وقال الضحاك : سل أهل التقوى والإيمان من مؤمني أهل الكتاب ممن أدرك نبي الله ولم يقع هؤلاء ولا هؤلاء على معنى الآية ومقصدها وأين كان عبد الله بن سلام وقت نزول هذه الآية فإن السُورة مكية وابن سلام إذ ذاك على دين قومه وكيف يؤمر رسول الله أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه؟
وقال كثير من المفسرين : هذا الخطاب للنبي والمراد غيره لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره كما يقول متمثلهم -إياك أعني واسمعي ياجاره- وكقوله تعالى : {يَا أَيٌّهَا النَّبيَّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} الأحزاب: 1. والمراد أتباعه بهذا الخطاب.
وقال كثير من المفسرين: هذا الخطاب للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- والمراد غيره لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره كما في المثل: إياك أعني واسمعي ياجاره.
قال أبو إسحاق: إن الله تعالى يخاطب النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- والخطاب شامل للخلق والمعنى وإن كنتم في شك والدليل على ذلك قوله -تعالى- في آخر السُورة: {قُل يَا أَيٌّهَا النَّاس إِن كُنتُم فِي شَكٍّ, مِّن دِينِي فَلاَ أَعبُدُ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن أَعبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم وَأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ} يونس: 104
وقال ابن قتيبة: كان النَّاس في عصر النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أصنافاً منهم كافر به مكذب وآخر مؤمن به مصدق، وآخر شاك في الأمر لا يدري كيف هو فهو مقدم رجلاً ويؤخر رجلاً، فخاطب الله تعالى هذا الصنف من النَّاس وقال فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسل. قال ووحد وهو يريد الجمع كما قال: {يَا أَيٌّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ} الانفطار: 6 وكقوله -تعالى-: {يَا أَيٌّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدحًا فَمُلَاقِيهِ} الانشقاق: 6 وقوله -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضٌّرٌّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَو قَاعِدًا أَو قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفنَا عَنهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّم يَدعُنَا إِلَى ضُرٍّ, مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلمُسرِفِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} يونس: 12. وهذا وإن كان له وجه فسياق الكلام يأباه فتأمله وتأمل قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّت عَلَيهِم كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ} يونس،الآية:96 . ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجه إلا على النَّبيَّ قالوا الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاك وكل هذا فرار من توهم ما ليس بموهوم وهو وقوع الشك منه والسؤال وقد بينا أنه لا يلزم إمكان ذلك فصلاً عن وقوعه. فإن قيل فإذا لم يكن واقعاً ولا ممكنا فما مقصود الخطاب والمراد به؟ قيل: المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد وأنهم مقرون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بذلك وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه فمن شك في ذلك فليسأل أهل الكتاب فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارة وأدلها على المقصود بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشك قط ولم يسأل قط ولا عرض له ما يقتضي ذلك وأنت إذا تأملت هذا الخطاب بدا لك على صفحاته من شك فليسأل فرسولي لم يشك ولم يسأل، والمقصود ذكر بعض الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية وهذه الحكمة منتفية في حق غيرهم فيجب قتالهم حَتَّى يكون الدين كله لله. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين(1).
1 - أهم المصادر والمراجع:
1. تفسير الإمام الطبري (11/168)
2. تفسير الإمام القرطبي (8/382).
3. كتاب أحكام الذمة للإمام ابن القيم الجوزية الجزء الأول الصفحات من95 وما بعدها بتصرف.
4. موقع ابن مريم على شبكة الإنترنت (http://www.ebnmaryam.com/) بتصرف.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد