بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
* لا تزال العواطف وردود الأفعال الجامحة تستحوذ على آراء فئام من الإسلاميين ومواقفهم تجاه القضايا المستجدات عموماً، ومسألة التكفير خصوصاً.
فما إن نادى بعضهم بتكفير أعيان وأشخاص دون تحرير أو تحقيق لقيام الحجة من اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، إذا بالطرف الآخر يقابل ذلك الإفراط بالتفريط والتمييع
فيصيح قائلاً: إن الشخص المعين لا يكفر حتى يقصد الكفر وينشرح صدره بالكفر، واحتجوا بقوله - تعالى -: ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالأيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم)) النحل (106).
وكلا الفريقين قد فاته من الصواب ما فاته، فالأولون لم يلتفتوا إلى عوارض الأهلية التي اعتبرها الشارع كالجهل أو التأويل أو الخطأ أو الإكراه، والآخرون أفرطوا وتوسعوا في تلك الأعذار، حتى أفضى ببعضهم إلى إغلاق باب الردة.
وأما احتجاجهم بالآية الكريمة فإنهم لم ينظروا إلى سياق الآية ومعناها؟ ((فإن من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا تناقض أول الآية وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً، فقد شرح بها صدراً، وهي كفر، وقد دل على ذلك قوله -تعالى-: ((ولئن سألتهم ليقولون إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)).
فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب)) الإيمان لابن تيمية ص 208 باختصار، وانظر الصارم المسلول (3/975).
والمقصود أن الشخص إن لم يكن مكرهاً فقد انشرح صدره بالكفر.
* من المهم في هذا الموضوع أن تضبط الأوصاف وتحرر المصطلحات، فمن الظواهر المَرَضِية المعاصرة التنابز بالألقاب والتراشق بالتبديع كاتهام البعض بأنهم خوارج ووصف آخرين بالإرجاء والعبرة بالحقائق والدلائل، فلقد رمي الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- بأنه من الخوارج (انظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية (التسعينية)(5/159) ومع ذلك فهو إمام أهل السنة، ومنهج أحمد أحمد منهج، واتهم عبد الله بن المبارك -رحمه الله- بالإرجاء (انظر عقيدة السلف للصابوني) وليس الأمر كذلك.
وقد تحدث الشاطبي -رحمه الله- عما يعانيه أهل العلم والاتباع من رميهم بالألقاب الشنيعة ثم قال: (فقلما تجد عالماً مشهوراً أو فاضلاً مذكوراً، إلا وقد نبذ بهذه الأمور أو بعضها، لأن الهوى قد يدخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف) الاعتصام (1/29).
ولذا يحتاج إلى ضبط هذه الأوصاف من جهة تحديد معناها وبيان مرادها، ومن جهة تنزيل هذه الأسماء أو الأوصاف على مستحقيها، فما أكثر الذين يرددون وصف الخوارج أو المرجئة وهم لا يفقهون معناها، وأكثر من هؤلاء من يُطلق تلك الأوصاف على أشخاص دون مراعاة لتحقيق المناط وضوابط التبديع.
*من الأخطاء التي ترتكب في معالجة هذه القضية أن يعمد البعض إلى تهويل طرف أو جانب في مسألة التكفير أو الإرجاء وفي مقابل ذلك يهون من الانحراف المقابل، ومسلك العدل والعلم يقتضي أن يعالج كل انحراف بحسبه دون تهويل أو تهوين، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
*ومن تلك الأخطاء أن يكون الغالب في علاج ظاهرة الغلو والتكفير استعمال الأسلوب الخطابي والاقتصار على التسفيه والتطفيف، واتهام أربابه بالسطحية والسذاجة، والتركيز على ما يكون ظاهر الفساد والبطلان كالقول بتكفير مرتكب الكبيرة- وقد لا تجد ظاهراً في أولئك الغلاة.
وفي مقابل علاج ظاهرة الإرجاء يُعمد إلى رمي من تلبس بأدنى إرجاء بأنه يقول أنه لا يضر مع الإيمان معصية وأن الإرجاء دين الملوك، وليس الأمر بهذا التعميم والإطلاق، فالإمام أبو حنيفة -رحمه الله- مثلاً تلبس بشيء من الإرجاء لكنه لا يقول: (إن المؤمن لا تضره الذنوب وأيضاً موقفه من الملوك صارم).
إن المتعين تجاه شبهات الفريقين واعتراضاتهم أن تذكر من مظانها ومصادرها ثم تنقض أصول هذا البدع ويُرد عليها بالدليل والبرهان.
*من الأمور الملحة في مسائل الإيمان والكفر أن نميز بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة وبين ما هو من مسائل الاجتهاد التي يسوغ الخلاف فيها.
فمثلا الإعذار بالجهل من جهة اعتباره من عوارض الأهلية وثبوت أدلته أمر ظاهر معلوم، قد ورد عليه نصوص كثيرة منها حديث الذي أمر أهله بأن يحرقوه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم ذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوه به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له) أخرجه البخاري (3478) ومسلم (2756).
وهذا حديث متواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 1/491)
يقول ابن تيمية: (وكنت دائماً أذكر هذا الحديث فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته، إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك) مجموع الفتاوى (12/491).
لكن قد يقع الاختلاف بين أهل السنة في المسائل التي يعذر بجهلها، وكذا الأشخاص والأزمنة والأحوال، فأفهام أهل العلم متفاوتة في مراعاة عوارض الأهلية، وتنزيلها على الواقع، فقد يعذر أحدهم بالجهل في مسألة بينما لا يعذر العالم الآخر، كما يعذر الآخر أحدهم بالجهل تجاه شخص ما لا يعذر الآخر، فمسألة العذر بالجهل مسألة اجتهادية. [1]
وكذا قد يكون الحكم قاطعاً في تقرير وتنظير جملة من نواقض الإيمان قد يعمد عالم من العلماء -عن أهلية واجتهاد وديانة إلى تكفير من ليس كذلك، فيكون ذلك العالم معذوراً ومغفوراً، يقول ابن القيم -رحمه الله-: (إن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولاً وغضباً لله ولرسوله ودينه لا لهواه وحظه فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يُثاب على نيته وقصده، وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع فإنهم يُكفرون ويبدعون لمخالف أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه) زاد المعاد (3/423).
إن استصحاب عوارض الأهلية في تقرير مسائل الإيمان والكفر يزيل الاشتباه ويفصل المجمل ويقيد المطلق، فإن من الجهل ما يعذر به المكلف، كما أن من التأويل ما يدرأ عن صاحبه الوعيد أو التكفير، كما أن المتعرض للإكراه الملجئ معفو عنه.
*إن التفقه في دين الله - تعالى-والتزود من العلم الشرعي يورث رحمة للخلق وإشفاقاً عليهم، فأهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، ولما غلب على الخوارج الجهل بدين الله -تعالى- أورثهم ذلك غلظة وقسوة، فكانوا يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقول ابن القيم (ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيماناً أعظم رحمة كما قال -تعالى-: في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((محَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم)) (الفتح: 29).
وكان الصديق من أرحم الأمة، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر) رواة الترمذي، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة.
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علماً) إغاثة اللهفان (1/ 250-251) باختصار فظهور العلم الشرعي ونشره عبر الوسائل المتعددة من جامعات وحلقات مساجد ومراكز علمية ومنابر إعلامية، كل ذلك كفيل بجلب الرحمة والرفق والإشفاق على الخلق ورجوعهم إلى الحق، فلقد ظهر ابن عباس -رضي الله عنهما- على الخوارج بالحجة فرجع شطرهم وصاروا مع علي -رضي الله عنه- ، وشغف يزيد الفقير برأي الخوارج فحدثه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- بحديث الجهنميين، فترك مذهب الخوارج، وقد دوخ الخوارج بني أمية بأنواع من الحروب والقلائل، فلما ولي عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الخلافة كاتب الخوارج ورد شبهاتهم فأقر بعضهم، ولما بلغت الخوارج سيرة عمر بن عبد العزيز وما رد من المظالم اجتمعوا فقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل (انظر أخبار عمر بن عبد العزيز للآجري ص 62).
وأما القمع والاضطهاد فلا يعقبه إلا غلو وإفراط، كما هو الواقع في القديم والحديث، وما خبر جماعة التكفير والهجرة عنا ببعيد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[1] انظر شرح كشف الشبهات لابن عثيمين ص 27.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد